الجمل العربيّ والجمل اليونانيّ
تصف القصص القصيرة جدّاً في أمثال أيسوبوس قساوة عيش الفئات المسحوقة من أبناء الشّعب اليونانيّ في القرن السّادس قبل الميلاد مثلما تصوّر أمثال أبي منصور الثّعالبيّ شظف العيش الذي عانى منه فقراء العرب الذين عاشوا قبل القرن العاشر الميلاديّ، ويبدو أنّ الفقر المدقع قد ألقى ظلاله على أسلوب هذه الأمثال وقصصها فجاء مباشراً وجافًّا وخالياً من المحسّنات اللفظيّة والأسلوبيّة.
يذكر المؤرّخ اليونانيّ الشّهير هيرودوتس الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، وعرفناه بقوله المشهور "مصر هبة النّيل"، أن أيسوبوس من أصل تركيّ، من مقاطعة فريجيا، وقد عرف في شبابه حضارة سكّان آسيا الصّغرى وحضارة الشّعوب التي وصلت مبحرة إلى شواطئ مصر وليبيا، ويبدو أنّه وقع في الأسر وبيع عبدًا قبل أن ينال حرّيته وشهرته. وأثّرت أمثاله على كتّاب المسرح اليونانيّ الكوميديّ في القرن الخامس ق.م مثل أرسطوفانس، وعلى الخطباء والفلاسفة والمفكّرين أمثال سقراط وكسينوفون وديوجينس.
تكثر في أمثال أيسوبوس قصص الحيوانات مثل القطط والثّعالب والأفاعي والخيول والحمير والثّيران والماعز، وقصص الطّيور مثل الحمامة والغراب والعندليب والصّقر والنّسر والدّيك، وقصص الحشرات مثل الخنافس والبعوض. كما نقرأ في أمثاله قصصاً عن حيوانات لا تعرفها بلاد اليونان، ولا يعرفها شعب اليونان أيضًا مثل الفيلة والقرود والجمال والأسود، وهذا يعود إلى ثقافة الرّجل التي نهلها في الفترة الآسيويّة من حياته.
شدّتني قصة قصيرة جدّاً في أمثال أيسوبوس بطلها جمل. هذا الحيوان الصّبور والحقود الذي أسماه أجدادنا "سفينة الصّحراء" والذي نال مساحة بارزة في الشّعر الجاهليّ فقد خلّد الشّاعر طرفة بن العبد ناقته بأوصاف جميلة في معلّقته الشّهيرة، كما فعل ذلك شعراء آخرون. وعرفنا جمالاً ونياقًا في التّراث العربيّ مثل ناقة البسوس، وحظي الجمل بصفحات عديدة في قصص التّراث فلا يُذكر الأعرابيّ الذكيّ أو الأعرابيّ المغفّل إلا في رفقة جمله أو ناقته مثل قصّة المثل "عاد بخفيّ حنين".
فسّر الحكّاء العربيّ الشّعبيّ الذّكيّ في إحدى قصصه سبب انهمار دموع الجمل الغريزة والسّرمديّة فقال: سألوا الجمل لماذا تبكي دومًا؟ فأجاب بأسى: لأنّ الحمار يقودني. وفي هذا نقد جارح للسّلاطين وعليّة القوم الذين سادوا واحتلّوا مراكز اجتماعيّة أو سياسيّة لا يستحقّونها.
ويبدو أنّ الجمل "اليونانيّ" في أمثال أيسوبوس لا يختلف كثيراً عن الجمل العربيّ.
يقول أيسوبوس: مرّ جمل في نهر تتدفق مياهه وتصل إلى عنقه، وفيما هو يعبر النّهر تغوّط أيّ تبرّز أو قضى حاجته كما نقول في الكلام الشّعبيّ. وطفا بعر الجمل على سطح ماء النّهر فحرّكه التّيار حتى صار الغائط أمامه: فلما شاهد الجمل غائطه تساءل: ما هذا الذي كان ورائي فصار أمامي؟؟
في هذا المثل نقد جارح للبلدان التي يحكمها أميّون وجهلة ومتخلّفون. ولو أنّ أيسوبوس قفز خمسة وعشرين قرنًا وعاش في أيّامنا في بلد إفريقي أو آسيوسيّ (طبعًا ليس بلداً عربيّاً لأن العرب ديموقراطيّون جدّاً ويحترمون حريّة الفكر كما أنّ حكّامهم ووزراءهم ونوّابهم ورؤساء بلدياتهم أناس حكماء ومتعلّمون جدّاً) لقطع الحاكم أو الوالي لسانه ورماه للكلاب والقطط، وربّما حرقه أو دفنه حيّاً كما حدث لبعض العلماء أو الأدباء. وأظنّ، يا سيّداتي سادتي، أنّ هذا الرجّل الأغريقيّ "يستاهل" ويستحق على الأقل أن يقعد على خازوق من خوازيق أحمد باشا الجزّار حاكم مدينة عكا العادل، ألم يقل الشّيخ الكبير في خطبة الجمعة "وأطيعوا الله والرّسول وأولي الأمر"؟
هل فهمت يا ايسوبوس؟
يا حمار !!