سان جون... جردته فرنسا من الجنسية فأهداها نوبل
المدينة نيوز - لم يكن الفرنسي الأول الذي يحصل على جائزة نوبل للآداب، وما هو بالأخير في قائمتها الطويلة التي تمتد إلى قرن ونيف، فقد نالها قبله وبعده كثيرون، منهم من طواه النسيان وصار مجرد اسم يذكر في سجل الجائزة وفي تاريخ الأدب، ومنهم من ظلت آثاره علامة راسخة في الأذهان ومتداولة بين القراء.
وبين هؤلاء وأولئك لم يمثل الشاعر الفرنسي سان جون بيرس (1887-1975)، الذي يُحتفى هذه الأيام بمرور أربعين سنة على وفاته، علامة فقط، بل "علامة مسجلة" واستثنائية بكل المقاييس، فقد كانت حياته ونصوصه أعظم من أي جائزة، وهو الذي اختار أن يسكن رحابة الكون ولانهائية معناه.
في قلب اللغة
في سياق من الغرابة والغربة، فتح سان جون بيرس عينيه على الدنيا سنة 1887. أما الغرابة فمنطلقها الاسم الذي اختارته له عائلته وسجلته به في دفاتر قيد النفوس "ماري رينيه أوغيست ألكسيس سان ليجيه"، اسم في غاية الطول والتركيب سيُضطر الشاعر إلى اختزاله وتحويره أكثر من مرة قبل أن يُقدم في نهاية المطاف على اختيار "سان جون بيرس" اسما يوقع به نصوصه وإصداراته.
وأما الغربة، فقد كانت بالنسبة إليه قدرا بين الاضطرار والاختيار. فبيرس الذي يحمل الجنسية الفرنسية لم ينشأ في وطنه الأم فرنسا، وإنما في مستعمرة من مستعمراتها، وتحديدا في "أرخبيل غوادلوب" الواقع في البحر الكاريبي بين قارتي أميركا الشمالية وأميركا الجنوبية.
وعن هذا السياق المزدوج، سياق غرابة الاسم حامل الهوية إلى درجة الإقدام على استبداله والانفصال عنه، وسياق الغربة عن الوطن الأم إلى درجة الاقتصار على تمثله ككينونة لغوية تنبع من الداخل لا من الخارج، انبثقت شاعرية سان جون بيرس التي لا نظير لها ولا صوت يشبهها في الأدب الفرنسي الحديث والمعاصر.
صحيح أن بيرس سيغادر مع عائلته أرخبيل غوادلوب سنة 1899 ليعانق الوطن الأم. ولكن، بدا من الواضح أن العناق لم يكن حارا ولا حماسيا، لأنه من المستحيل على صبي في الثانية عشرة من عمره أن ينفصل عن المكان الذي انفتحت فيه عيناه أول مرة وفيه تشكل وعيه بالعالم وبالأشياء.
شحن كل أفراد العائلة أغراضهم الشخصية في السفينة التي قادتهم إلى الوطن الأم وتركوا وراءهم الغوادلوب وجزر بحر الكاريبي، ولكن الفتى سان جون بيرس، وفي غفلة من الجميع، حمل معه الأرخبيل كله وأغلق باب قلبه عليه بحساسية تتجاوز دون شك النظرة الساذجة والموقف الرومانسي المبسط إلى ما سيبدو أكثر تجذرا وأصالة.
الكون وطن الشاعر
بعد استقرار عائلته في فرنسا، اختتم سان جون بيرس دراسته الثانوية بحصوله على شهادة الباكالوريا (1904). وفي تلك السنة بالذات، شرع في كتابة قصيدته "صُور إلى كروزو"، وهي قصيدة استلهمت مناخات رواية الإنجليزي دانيل ديفو (1660-1731) "حياة روبنسون كروزو ومغامراته العجيبة المفاجئة"، وفيها تخيل بيرس أن بطل الرواية الشهير قد عاد من جزيرته إلى عالم المدينة والحضارة ليطرح سؤاله عن الكون.
لا يتعلق الأمر طبعا بسيرة ذاتية أو بما يقرب منها أو يشبهها، فكل ذلك لم يكن من هواجس سان جون بيرس ولا من مراميه، وإنما هي تأملات في الكون وعناصره الظاهرة والخفية، الحية والميتة، الصامتة والناطقة.. تأملات سيغذيها الشاعر لاحقا بدراساته لعلوم الأنثروبولوجيا والأساطير والملاحم إلى جانب دراسته للحقوق، هذه الدراسة التي سيقطعها عقب وفاة والده (1907) واضطراره إلى رعاية شؤون العائلة.
وعلى نفس النهج، نهج استرجاع الطفولة استرجاعا يتجاوز الحنين والأنين، سيكتب بيرس مجموعة قصائد تحت عنوان "احتفاء بطفولة، ومدائح، وقصائد أخرى" (1910)، قبل أن يتقدم لإجراء مناظرة ستتيح له الالتحاق بالدبلوماسية الفرنسية وسيشكل دخوله إليها منعرجا سيطبع حياته وشعره.
فعلى إثر تعيينه في وزارة الخارجية، سيضطر بيرس إلى الانفصال مجددا عن الوطن الأم (وطن لم ينغمس فيه كل الانغماس بل عاش تقريبا على هامشه دون مخالطة فعلية لشعراء باريس ومثقفيها رغم كثرتهم) من أجل معانقة العالم، كل العالم، في رحلة لا تنتهي قادته إلى بكين وكوريا ولندن وألمانيا.
والأهم من ذلك أن واجب التحفظ الدبلوماسي قد أجبره على إمضاء نصوصه بأسماء مستعارة، وكأنما حكم عليه أن يعيش في صميم الغربة عن اسمه وعن نصه وعن فرنسا التي عاد إليها ليشغل مناصب رفيعة في وزارة الخارجية، ولكن الأزمات التي سبقت الحرب العالمية الثانية وصاحبتها ومواقفه المعادية لألمانيا وسياساتها ستدفع به إلى تقديم استقالته التي رُفضت، قبل أن يتم عزله من منصبه في العام 1939 وتجريده من الجنسية الفرنسية ومصادرة جميع أملاكه عام 1941، مما سيضطره إلى الإقامة في نيويورك والعمل بها كمستشار في مكتبة الكونغرس.
وفي هذه المرحلة الأميركية، سيكتب سان جون بيرس أروع نصوصه "منفى" (عام 1941) و"أمطار" (عام 1942) و"قصيدة للغريبة" (عام 1943) و"ثلوج" (عام 1944) و"رياح" (عام 1946)، متنقلا بين كارولينا الجنوبية وتكساس وأريزونا.
وحتى بعد استرجاعه لجنسيته، فإن بيرس سيفضل معانقة الكون، مواصلا الرحلة عبر العالم إلى مواطن الصبا الأول باتجاه بحر الكاريبي وجزر الباهاما ثم الأرجنتين وجزر الأنتيل والبلدان الإسكندنافية.
ومع عوداته المتقطعة إلى فرنسا، سيقيم في شبه جزيرة جيان المطلة على البحر الأبيض المتوسط، وكأنما جعل البحر قدرا له.
نصوص بطعم البحر
على امتداد قصائده التي يسكنها البحر ويحيط بها من كل جانب، وتضطرب فيها عناصر الطبيعة وتضطرم، ويتراوح فيها الإنسان بين التسامي الملحمي الخالد والسقوط الدرامي المفجع، يبدو شعر سان جون بيرس -كما يقول الشاعر والناقد والمترجم التونسي علي اللواتي- "كمعْلم متفرد منعزل عن التقاليد الشعرية الحديثة، يلفه ضباب من الغموض وتزداد كثافته كلما اختلفت حوله التفسيرات والتأويلات، مما دعا أغلب النقاد إلى الاعتقاد بانعدام السبب بينه وبين الإبداع الشعري في الغرب، معتبرين إياه خلقا محضا وظاهرة بلا أصول ولا وشائج".
واللافت للانتباه أن هذه السمات التي ميزت شعر بيرس هي التي فتحت له الطريق إلى نوبل (عام 1960) وجعلت المترجمين يقبلون على نصوصه.
ورغم إجماعهم على عسر ترجمتها، فإنها قد نُقلت إلى سائر اللغات الأوروبية كالإنجليزية والإيطالية والإسبانية والألمانية والسويدية، نقلا لم يكتف فيه المترجمون بالنص في ذاته، بل اضطروا إلى تذييله بالملاحظات والتدقيقات التي تيسر قراءته وفهم أبعاده وخفيّ دلالاته.
ولم يكن حال العرب مع نص بيرس ببعيد عن حال بقية الأمم، بل لعل الاختلاف فيه بينهم كان أشد وأظهر.
فمنذ أوائل السبعينيات (1973)، عرّب المغربي مصطفى القصري نصا مطولا من نصوص بيرس نشره في تونس تحت عنوان "الفُلك ضيقة"، عيب عليه فيه أنه اقترب بنص بيرس من الأسلوب القرآني فطمس خصوصيته وأكسبه أبعادا ليست فيه.
وبعده بسنتين، قام الأديب اللواتي بتعريب قصيدة "آناباز" التي أعاد ترجمتها العراقي عبد الكريم كاصد (1976)، إلى أن أقدم الشاعر أدونيس على نشر "أعمال سان جون بيرس الكاملة" (1978) لتندلع في أعقاب نشرها خصومة أدبية نقدية أوقد شرارتها علي اللواتي في مقال له تحت عنوان "إعدام خطاب شعري، أو جناية أدونيس على سان جون بيرس" (1980)، وهو مقال تقصى فيه صاحبه ما اعتبره "هفوات" أدونيس و"خياناته" للنص الأصلي سهوا أو عمدا.
ومهما يكن من أمر، فالثابت لدينا أن بيرس بمنجزه الشعري قد جاء ليحرك السواكن، لا سواكن المترجمين والنقاد ودارسي الأدب في الجامعات عبر العالم فقط، بل سواكن القراء أيا تكن اللغة التي يطالعون فيها نصوصه، هذه التي يسكنها البحر والرعد والصاعقة ويعيد فيها الكون مع كل حرف خلق نفسه من جديد، وإلى ما لا نهاية.(الجزيرة)