"عندما بكى نيتشه"... الفلسفة لإنقاذ الإنسانية
المدينة نيوز - يؤرخ الأميركي إرفين د. يالوم في روايته "عندما بكى نيتشه" لتاريخ الفلسفة في أوروبا في النصف الثاني من القرن الـ19، ويحدد سنة 1882 كمحطة لتوثيق المستجدات والأحداث التي ساهمت في تشكيل مدارس فلسفية أصبح لها صداها العالمي تاليا، وأثرت في حركة العلم والأدب معا.
يستند يالوم إلى آراء الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه (1844-1890) في كتبه عن كثير من القضايا، ورؤيته المستقبلية، وتصوراته عن عالمه، وحديثه عن الإنسان المتفوق، وآرائه المختلفة الصادمة في بعض المواضيع، كرؤيته للأمل تحايلا على الذات، وإدامة للملهاة أو المأساة من بعض الزوايا، وكذلك حديثه عن الشك والإيمان، ودفعهما المرء لسلك بعض السلوكيات التي تعبر عن قلق نفسي متنامٍ، وكيف أن حكمته كانت سابقة عصره.
سير الفلاسفة
يتكئ يالوم في روايته -التي نشرتها دار الجمل في بغداد بترجمة خالد الجبيلي (2105)- على سير عدد من الفلاسفة والشخصيات الثقافية اللامعة حينذاك، ليتقصى بدايات التحليل بالعلاج النفسي، وانبثاق تلك الأفكار من خلال التجارب التي خاضتها تلك الشخصيات وملاحظاتها عليها والتراكم الذي ساهمت فيه، والذي أنتج هذا المجال.
"يالوم يتكئ في روايته على سير عدد من الفلاسفة والشخصيات الثقافية اللامعة حينذاك، ليتقصى بدايات التحليل بالعلاج النفسي، وانبثاق تلك الأفكار من خلال التجارب التي خاضتها تلك الشخصيات وملاحظاتها عليها"
من تلك الشخصيات، التي يستعيد يالوم لقطات من سيرتها سنة 1882، نيتشه الذي يكون محور أحداث الرواية، ويكون حمال أفكاره ومحمولها، بالإضافة إلى الطبيب النفساني النمساوي جوزيف بريوير، وتحيط بهما شخصيات مساهمة في رسم مشاهد من لوحة حياتهما في تلك المرحلة، وبخاصة الأديبة والمحللة النفسانية الروسية لو سالومي، بالإضافة إلى فرويد الذي استذكر حالة صديقه جوزيف في دراساته اللاحقة.
رسالة مقتضبة موجهة من لو سالومي إلى الطبيب جوزيف بريوير تشكل شرارة أحداث الرواية، تقول فيها سالومي لبريوير إن مستقبل الفلسفة الألمانية على المحك، لذلك عليها أن تلتقيه. يكون بريوير في إجازة لكنه يمضي إلى الموعد المحدد من دون أن يعرف خفاياه ودوافعه، ليجد نفسه أمام فتاة فاتنة تلقي عليه أعباء مسؤولية إنقاذ الفيلسوف نيتشه الذي كان يمر بحالة كآبة شديدة يُخشى أن تدفعه إلى الانتحار.
ينساق الطبيب بريوير إلى اللعبة التي نسجت سالومي خيوطها بذكاء، يستدرج نيتشه إلى عيادته عن طريق بعض الأصدقاء، وهناك يكون الصدام والوئام والتعارف والبوح والاعتراف، بحيث أن المريض المفترض يتحول إلى طبيب مداوٍ للطبيب نفسه، ويتبادل نيشته وبريوير الأدوار فيما بينهما، يخوضان صراعهما ضد ذاتهما وضد بعضهما وأفكارهما كصديقين لدودين.
تتخذ جلسات نيتشه وبريوير طابعا سجاليا، كل واحد منهما يداوي الآخر، ويساجله، كما يتداوى في الوقت نفسه باعترافه ونقاشه، يبحثان في مواضيع كالحب، الجنس، الصداقة، الوفاء، الوحدة، العزلة، الزواج، الخيانة، الحقيقة، الزمن، الأمل واليأس، وغيرها من الأفكار والمسائل التي تقود المرء في حياته وترسم له توجهاته ودوافعه، وتسير به إلى مصيره، من دون أن يشعر أنه مقود بقوى عظمى تسيره.
يحاجج نيتشه طبيبه في التفاصيل كلها، يرغمه على كشف أوراقه أمامه، وعدم إخفاء أي شيء عنه، فيضطر الطبيب إلى مسايرته بداية، وإيهامه أنه انقاد له، يطلب منه أن يعالجه من يأسه كرد منه لمعالجته له، وهكذا يعقدان صفقة بينهما فيتبادلان البوح والاعتراف.
اللعبة التي يغرق الطبيب بريوير نفسه فيها تتلبسه وتصبح حقيقة، فيجد نفسه بحاجة للمعالجة النفسية، ويساعده اعترافه لينتشه بالتخفيف من حالته، تلك التي لم يكن يجرؤ على الخوض فيها والحديث عنها لأحد، وكانت تتمحور حول علاقته بإحدى مريضاته، وتعلقه الغريب بها.
ويتعاطف معه نيتشه لدرجة يجد فيها يأسه قاهرا ومضنيا، ثم يبكي من أجله، وتلك تكون لحظة الذروة في إعادته إلى واقعه الإنساني، وانطلاق فلسفته من جديد ليكون الإنسان غايته ومنطلقه كما كان، حيث يتفوق الإنسان على الفيلسوف اللائذ بحياديته، وتكون الفلسفة مسعى لإنقاذ إنسانية الإنسان وتعظيمها.
بحث عن الحقيقة
يتغلغل صاحب "مشكلة سبينوزا" في ما يصفها بالنقاط العمياء في حياة الإنسان وأعماقه، تلك التي يكون لها التأثير الأقوى في تحريكه، وقيادة أفعاله بهذا المنحى أو ذاك.
ويصور التحدي الفكري الذي يشحذ المخيلة بين نيتشه وغريمه وطبيبه بريوير، ولعبة المكاشفة والمصارحة، ووصولهما إلى مناطق قصية في النفس البشرية، من خلال التجرد من أنانيتهما، وكشفهما عن الدفين والمخبوء في داخلهما، وسعيهما إلى إظهار الحقائق كما يتخيلانها.
"الروائي يخلص إلى أن البحث عن الحقيقة هو هاجس الطبيب والفيلسوف وهمهما المشترك، فنيتشه الذي ينهي العلاج من دون أن يُشفى يشير إلى أن قدره هو البحث عن الحقيقة في الجانب الوحيد من العتمة"
ويرمز الروائي إلى أن البحث عن الحقيقة هو هاجس الطبيب والفيلسوف وهمهما المشترك، فنيتشه -الذي ينهي العلاج من دون أن يُشفى- يشير إلى أن قدره هو البحث عن الحقيقة في الجانب الوحيد من العتمة. يقول "إن ابني زرادشت سيكون ناضجا بالحكمة، لكن رفيقه الوحيد سيكون نسرا. سيكون أكثر الرجال وحدة في العالم".
يشير يالوم إلى ضرورة أن يختار الإنسان طريقه الذي يحب ويسير فيه ويحبه، ويدور حديث نيتشه الأخير لطبيبه الذي أصبح صديقه حول تقبل مفهوم "أحب قدرك" كثيرا، وأنه أسلم نفسه ليحب قدره، وأنه بفضله أصبح يدرك أنه يوجد لديه خيار، كما يؤكد أنه سيبقى دائما وحيدا، لكنه يتمتع بروعة اختيار ما يفعله. يقول "اختر قدرك، ثم أحب قدرك".
ويقدم يالوم صور المرأة الفاتنة المغوية، تلك التي تقع ضحية إغرائها أيضا، فالمريضة آنا هي تجسيد أنثوي للضحية والجلاد في الوقت نفسه، مثلها في ذلك مثل لو سالومي نفسها، تلك التي تكون مشتركة بين الطبيب والفيلسوف، وتخترق قلبيهما، تثير مشاعرهما وتتملكهما بطريقتها الأنثوية الماكرة الذكية.
وينوه صاحب "علاج شوبنهاور" إلى أن نيتشه لم يلتقِ بريوير قط، وأن العلاج بالتحليل النفسي لم يستنبط من لقائهما، لكن وضع الشخصيات الرئيسة يستند إلى الوقائع والمكونات الضرورية لروايته، والتي يؤكد أنها صحيحة كلها من الناحية التاريخية في 1882، تلك المتمثلة في الألم النفسي الذي يعتري بريوير، وحالة اليأس لدى نيتشه، وآنا، ولو سالومي، وعلاقة فرويد مع بريوير، والجنين الذي كان ينمو، وهو العلاج بالتحليل النفسي.
ويشير يالوم إلى أنه في العام 1882 لم يكن العلاج بالتحليل النفسي قد انبعث بعد، وأن نيتشه لم يوجه اهتمامه في هذا الاتجاه، وأنه استدل من أبحاثه إلى أن نيتشه كان مهتما بعمق بالفهم الذاتي والتغيير الشخصي، وأنه من أجل الاتساق الزمني قيد نفسه بأعمال نيتشه قبل عام 1882، لاسيما "هو ذا الإنسان"، "تأملات قبل الأوان"، "الفجر"، العلم المرح"، وافترض أن الأفكار التي يصفها بالعظيمة في "هكذا تكلم زرادشت" كانت ترشح في عقل نيتشه حينها.(الجزيرة)