مُنْتَقِدو «بوتين».. ووُعّاظه!

تحفل وسائل إعلامية عربية، بعضها ورقي والآخر مرئي وجلّها إلكتروني، بكثير من المقالات والتعليقات وخصوصاً التي يصعب تصنيفها تحت هذه «الصنفين»، اللذين انحدرا في المشهد الإعلامي العربي حدود السقوط، نظراً لانعدام صدقيتهما وغياب المعلومات عنهما وافتقارهما إلى الرصانة والصدقية والجديّة, وعدم التزام الموضوعية والحيدة في التعاطي مع الشأنين المحلي والإقليمي، ما بالك بالحال المعقدة والخطيرة التي تسود المنطقة العربية، على نحو لا يسمح لأحد بممارسة ترف التنظير واصدار الأحكام المسبقة وخصوصاً في تجاهل حقائق التاريخ وديكتاتورية الجغرافية، رهاناً – في ما يبدو – من هؤلاء على ضعف ذاكرة الجمهور العربي أو الجمهور في شكل عام.
نقول: تمتلئ هذه الوسائط بمواعظ وانتقادات للزعيم الروسي فلاديمير بوتين، مُذكِرّة اياها بحقائق تاريخية «سابقة»، يعتقد هؤلاء الوُعّاظ ان الرجل الذي عاش الحقبة السوفياتية كضابط استخبارات في ألمانيا الشرقية وشهد أفولها. ثم برز في الحقبة اللاحقة وخصوصاً العهد الكارثي لبوريس يلتسين، لا يعرف شيئاً عن خطيئة أفغانستان التي قارفها «أبو الهول» السوفياتي، ليونيد بريجينيف بالضد من غالبية الآراء التي حذرته من مستنقع كهذا، او أن بوتين لا يُدرك طبيعة «الفخ» الذي نصبه لبلاده السوفياتية، الغرب الامبريالي بزعامة الولايات المتحدة التي كانت– وقتذاك – تعاني عقدة الهزيمة المدوّية، التي ألحقها بها المقاتلون (والشعب) الفيتناميون، بدعم صريح ومعلن من موسكو وإلى حد ما الصين التي تراجعت تدريجياً عن تقديم دعم كهذا، بعد ان بدت هانوي «هوتشي منه» اقرب الى موسكو منها الى العاصمة الصينية، ناهيك عن الضربة المؤلمة التي تمثلت بسقوط نظام شاه إيران محمد رضا بهلوي، بقيام الثورة في إيران وتفكك الحلف الثلاثي المعلن بين طهران، انقرة وتل أبيب، فجاء الغزو السوفياتي لأفغانستان بمثابة هدية مجانية قدمها بريجينيف وبعض المقربين منه، إلى الامبريالية الأميركية ودوائر إسلامية وعربية معروفة شديدة العداء للشيوعية أو أن الدور المنوط بها، الزمها برفع شعار كهذا، ولكن براية إسلامية (وكأن الإسلام الأفغاني هو هادي البشرية والمكان المقدس للمسلمين فيما كانت مضت ثلاثة عقود على سقوط فلسطين (وخصوصاً القدس) في يد الصهاينة، ولم ينتصر أحد لإسلام أهل فلسطين أو يرى العداء مع الصهيونية «دلالة دينية» طالما أشهر مثل هذا الخطاب، كلما رغبت واشنطن في تحريك العداء للخصم السوفياتي.
ينسى الوُعّاظ والمنتقدون لقرار الرئيس الروسي الانخراط المباشر في الأزمة السورية, أن روسيا اليوم ليست هي الاتحاد السوفياتي، وان عقلية بوتين ليست بجمود أو تردّد أو حتى بلادة بريجينيف وبطانته، ناهيك عن ادراك الزعيم الروسي العميق ,بأن أميركا التي «يُنازلها» في أكثر من مكان، ليست هي أميركا السبعينيات ولا الثمانينيات وخصوصاً بعد أن أرهقتها الحروب العدوانية التي شنتها على أفغانستان وخصوصاً العراق، زد على ذلك دائماً، ان بوتين في سعيه المُعلن والمباشر لانهاء عصر التفرّد الأميركي، بالقرار الدولي، وتكريس نظام عالمي جديد ينهض على تعدد الأقطاب واصراره على تحدي المزاعم بـ»الاستثناء» الأميركي المزعوم (وهو كتب عن ذلك في صحيفة نيويورك تايمز وقال الشيء ذاته وأخطر منه، في مؤتمر ميونيخ للأمن قبل ثماني سنوات 2007) فضلا عن كون بلاده عضوا فاعلا في مجموعة «بريكس», إنما ينطلق من قاعدة احترام القانون الدولي والتزام ميثاق الأمم المتحدة فضلاً ـ وهذا ما يجب أن يلتفت إليه المنتقدون والوُعّاظ ـ أن بوتين لا يقود دولة شيوعية وغير معني بنشر الاشتراكية أو اي شكل من اشكال التبشير بالنقيض الرأسمالي أو اقتصاد السوق، حيث يقوم اقتصاد بلاده على هذه النظرية , كما أن روسيا ايضا عضو في منظمة التجارة العالمية.
ثمّة موازين قوى ومعادلات جديدة نشأت, واصطفافات وتحالفات آخذة بالبروز والتشكّل، ولا سبيل لتجنيب المنطقة – دولها والشعوب – المزيد من الفوضى والدمار، سوى بدعم حل سياسي للأزمة السورية، قبل فوات الأوان ودون شروط تعجيزية لم تنجح التدخلات العسكرية في فرضها، فكيف يمكن لأصحابها أن (ينتصروا).. بالسياسة؟.
(الرأي 2015-10-06)