حياتنا قانون مؤقت وإصلاح تدريجي

قد تحتاج إلى جلسة علاج نفسي بعد الاستماع للخبير القانوني الدكتور محمد الحموري يشرح الدستور والقوانين الأردنية وتغول السلطة التنفيذية على الدستور؛ لأنه سيقضي على آخر بصيص أمل عندك بأن مستقبل البلد قابل للتطور في ظل المنظومة السياسية الحالية التي تفتقر لارادة الاصلاح، وكلامه ليس هذرمات ولا سوالف حصيدة كالتي يتشدق بها بعض السياسيين والمعلقين وإنما كلام استاذ ضليع قلع أسنانه وهو»يفصفص» الحرف قبل الكلمة في معاني ومضامين وتطبيقات قانون الانتخابات الجديد وتداعياته على السياسة الاردنية في حال تم اقراره والعمل به ويستعرض تجارب الامم الاخرى في صيرورة التطور السياسي.
في أحد فنادق الخمس نجوم كانت محاضرة الحموري والحضور من النخبة السياسية واصحاب الرأي وطواقم الاعلام، والسياق المكاني بحد ذاته كان محبطا ويدل على نخبوية التفكير السياسي والاصلاحي في الأردن، فهذه الغرف المغلقة الثرية لا تشبه في شيء عموم مواقع الشعب الأردني ولا توجهاته في المناطق الفقيرة والمحافظات والقرى حيث العوز لم يدع للكثيرين أفقا للتفكير ولا مجالا للضمير وأصبح المرء يبحث عن دوائر الأمان المادي والقبلي ولو أتت في شكل شخص «مدمن» على عصير «التفاح» او قائد «مافيا» أو»حوت» اقتصادي!
يضع روسو منظر الثورة والاصلاح في فرنسا ثلاثة شروط لنجاح أي عملية سياسية تعتمد على القرار والشراكة الشعبية في حال الانتخابات والاستفتاءات وهي: ١.أن يصوت الشعب بناء على المصلحة العامة او ما يعرف بـgeneral will لا المصالح الشخصية particular will او حفاظا على ما يعرف بالحقوق المكتسبة او الامتيازات، ٢. ألا يتم التلاعب بالتصويت من قبل الهيئات او المؤسسات المختلفة، ٣. أن يتمتع المجتمع بشيء من المساواة في الثروة والقوة فلا يكون أحدهم فاحش الثراء ليشتري ذمم الناس ولا فاحش القوة ليرهبهم بها، والعوامل الثلاثة غائبة في مجتمعنا بل ساعدت قوانين الانتخاب والتعديلات المتواترة على زيادة الشرخ والأمراض واستفحال التجاوزات بحيث أصبح التزوير نمطا سائدا ومن يراقب يهدف الى حصره وتوثيقه والتقليل منه لا اجتثاثه!
للدكتور الحموري طعون وملاحظات جوهرية على قانون الانتخابات المقترح فيما يخص القوائم وتشكيلها والهيئة المستقلة للانتخابات ونظام الكوتا تؤكد ان القانون الجديد لن يسير خطوة في طريق الاصلاح السياسي المنشود والرؤى والاوراق المبثوثة في وسائل الاعلام الاردنية وميادين المجتمع بل سيجذر حالة التراجع السياسي ويزيد التفتيت والتقسيم ويبقي السلطة التشريعية التي تمثل ارادة الشعب مجرد «شرابة خرج»! ثم يتساءل مستنكرا ويتساءل كل شريف يحب الوطن معه: ما الذي يمنع الحكومة من اصدار قانون انتخابات يأتي بنواب أصحاب اهلية وكفاءة يحملون الوطن على أكتافهم في ظل الظروف العصيبة والتحولات الخطيرة التي تمر بها المنطقة؟
إننا بعد لم نصل الى حالة التنوير السياسي الذي يطلق مثل هذه النقاشات، فالحاضنة المجتمعية ليست على مستوى الوعي للقيام بأدوار المحاسبة والرقابة والضغط وتحمل المسؤولية وسيكون ضربا من السذاجة ان نطالب من لا يملك قوت يوم وسقف بيت وستر ثوب بالنزاهة والتجرد! تأمين اسباب الكفاية والكرامة هو السبيل الى تحرير القرار السياسي، أما قبل ذلك لا تطالب المواطنين بعدم استغلال فرصة الانتخابات للكسب والتعويض ولا تعاقب سارقا صغيرا وتنسى من يرون الوطن كله بقرة حلوبا ويضعون لكل شيء سعرا قابلا للبيع والشراء!
واذا كان هذا حال غالبية المجتمع، فالأطر الحاكمة لن تجد نفسها مضطرة لاصلاح حقيقي ولن يتطلب الامر منها سوى تزويق دائم للمشهد يبرز البلاد سائرة على الطريق في عيون الغير وهي تحاول مرة بعد مرة تحسين المشهد وتغيير الموجود وتجاوز العقبات! حتى أصبحت حياتنا سلسلة من القوانين المؤقتة والتجريبية التي تهدف الى الاصلاح التدريجي الذي نسمع به منذ سنوات ولا ندري متى ينتهي التدرج ليتحقق على واقع الأرض في زمن يحفل بتسارعات لا تدع مجالا للتدرج؟!
مزاميرك حكيمة وثاقبة يا دكتور حموري ولكنك تقرعها على آذان صماء وان سمعت فهي لا تملك سلطة التغيير بل قد تضطر الى السير مع العمل ضمن هذه القوانين بكل مثالبها من باب «الزمن اللي مش جاي معاك روح معاه»، والرضى بأقل الاضرار وترجيح اقل المساوئ وهذه الاضطرارات كلها لا توجد أفقا سياسيا للاصلاح ولو جلبت الى السطح برلمانا ملونا بالاختلافات الحزبية والعرقية والدينية والجنسية!
كان لدينا بصيص أمل يا دكتور أن الجالسين في الأبراج العليا سينزلون من عل وسيحسنون قراءة المشهد الحالي وانهم ضمن هذه المعطيات سيسعون الى تقوية الجبهة الداخلية وزيادة التفاف المواطنين حول بلادهم ليبقى الأردن كما نرجو الواحة والقلعة الاخيرة ضمن الاقليم المشتعل الذي يتساقط قطعة قطعة ولكن يبدو أن حساب القرايا ليس كحساب السرايا وان توجهات الحكومة ومصلحة الوطن والمواطنين سيبقيان على طرف نقيض!
فعلى من تقرع مزاميرك يا دواد والثور يستعذب السير في الساقية مغمض العينين ما دام هناك وعد بالبرسيم في آخر النهار؟!
(السبيل 2015-10-29)