عن الشرق الأوسط الذي يعرفونه.. «وقد انتهى»!

«خبران» طازجان «هطلا» للتو من بلد ثورة الحرية والمساواة والاخاء، الام الحنون فرنسا.. احدهما تكرّم مدير الادارة العامة للأمن الخارجي (الاستخبارات) برنار باجوليه بإخبارنا «وفاة» الشرق الاوسط الذي يعرفه «الغرب» ناعياً إياه، ولا نعلم إنْ كان بتأثُرٍ ام بشماتة، وبخاصة انه كان يتحدث في العاصمة الاميركية واشنطن خلال مؤتمر حول الاستخبارات مُبْلغِاً الجميع ان الشرق الاوسط الذي «نعرفه»... انتهى، و»يشُك» سعادته في امكانية عودة هذا الشرق الاوسط الذي «نعرفه»، بل حسم أمره وقال في ما يشبه الثقة المطلقة :ان الشرق الاوسط «الوليد»، سيكون حتى مختلفاً عن الشرق الاوسط بعد الحرب العالمية الثانية..
للمرء ان يتأمل في ما تستبطنه «نبوءة» كهذه، يتحدث عنها رئيس استخبارات دولة «كبرى» ما يزال «الغرب» لأسباب معروفة يعد على التعامل معها على انها دولة عظمى، بل ويتصرف قادتها على انهم احفاد الامبراطورية الفرنسية الاستعمارية، التي كانت قبل ان يأفل نجمها وتتحول بعد العدوان الثلاثي الذي دبرته في الخفاء مع بريطانيا واسرائيل، الى مجرد تابع لأميركا بعد ان فشل الجنرال ديغول في الحد من «موضة» التأمرك التي اجتاحت النخبة السياسية الفرنسية ثم وجد في الانسحاب من الشِق العسكري في معاهدة الناتو, فرصة لاغاظة واشنطن والاحتجاج على سياستها الامبريالية المتمادية لكن ورثته وخصوصاً ابن المهاجر الهنغاري اليهودي نيكولا ساركوزي، اعادها الى حظيرة الاطلسي اعجاباً باليانكي الاميركي وتوسلاً للانضمام الى مشاريعه التوسعية وحروبه العدوانية على النحو الذي رأينا ترجمته في لييا ثم في سوريا وما يزال الانخراط الفرنسي في الحرب على سوريا مستمراً، ولم تتغير سياسة قصر الاليزيه بتغير البطاقة الحزبية لشاغله، بل وجدنا «الاشتراكيان» هولاند وفابيوس اشد انجذاباً وتبعية لواشنطن من ذلك «الديغولي» ساركوزي..
ما علينا..
لم يقل السيد باجوليه ما الذي «كانوا» يعرفونه عن الشرق الاوسط الذي انتهى، بل ثمة غموض في ترويجه للنموذج الجديد او الوليد المُنتظَر, بعد انتهاء موجة الحروب والعنف والارهاب التي تضرب الشرق الاوسط (الذي يعرفونه) وهل ثمة فعلاً اراد رجل المخابرات الفرنسية الأول ان ينعي ذلك الشرق الاوسط؟ أم أنه نفض يديه منه ويستعد لاستيلاد شرق اوسط مختلف ؟ سواء عن الصيغة التي اشترك جده العظيم «بيكو» في تكريسها بعد الحرب العالمية الاولى بالمشاركة مع المستر سايكس الانجليزي؟ أم هو يريد «التحلل» من «صيغتي» هذا الشرق الاوسط البائس، نسخته الأولى التي جاءت نتاج توافق سايكس بيكو ام النسخة الاخرى التي تبلورت بعد الحرب العالمية الثانية وخصوصاً اوائل خمسينات القرن الماضي ونجاح مصر في اسقاط نظام «فاروق» وقيادتها حركة التحرر الوطني العربي والافريقي بل والاميركي اللاتيني على النحو الذي تجلّى في قهر الامبراطوريتين الاستعماريتين الاقدم والابشع والاكثر ظُلماً واستكباراً ودموية وهما البريطانية والفرنسية، رغم ان «القيادة» الاستعمارية آلت في النهاية الى الولايات المتحدة الاميركية, التي لا تقل بشاعة ودموية وعدوانية عن سابقتيها البريطانية والفرنسية.
لن تمر عبارة النعي او اعلان الوفاة الذي أشهره رئيس الاستخبارات الفرنسية برنار باجوليه كأي عبارة «مخابراتية» عابرة، بل ثمة ما يستدعي التأمل في معانيها والتوقف عند دلالاتها وبخاصة في ظل ما جرى ويجري في ليبيا والعراق واليمن وخصوصاً سوريا (دع عنك فلسطين التي يراد لها ان تسقط عن جدول الاعمال وان تتحول الى مجرد صراع على الصلاة في المسجد الاقصى واراض متنازع عليها). ويصعب بالتالي القفز على التشدد الفرنسي اللافت في الموقف من النظام السوري ورئيسه, حيث تزاود باريس على واشنطن (وربما هو توزيع للادوار) وهو ما تجلى في اجتماع فيينا «1» الموسع.
ماذا عن الخبر الفرنسي.. الثاني؟
في غمرة المذبحة المفتوحة في فلسطين التي تُقارفها دولة الاحتلال الصهيوني والاعدامات الميدانية التي تنفذها قواتها بحق الاطفال والصبايا والشباب الفلسطيني, اصدرت المحكمة العليا الفرنسية قراراً يصف الدعوة لمقاطعة اسرائيل التي تقودها مجموعة حقوقية فلسطينية وعالمية BDS، بأنها جريمة تُشجِّع على الكراهية (اي العنصرية).. بل قامت بتغريم BDS بمبلغ (14500) دولار.
هذا هو الغرب الاستعماري الذي مارس وما يزال كل انواع العنصرية والاستكبار والغطرسة والطمس على حقوق الانسان ونهب الثروات والمسّ بالسيادة الوطنية لمعظم دول العالم ناهيك عن احتقاره للقانون الدولي، ولا يتورع عن استخدام آلة القتل العسكرية المتطورة لقلب الانظمة وغزو البلدان، تحت مزاعم بناء الدول ونشر الديمقراطية ولا يرى في مقاومة الاحتلال سوى ارهاباً وتشجيعاً على الكراهية.. فهل ثمة أمل في «عدالة» من غرب استعماري قامت حضارته واغتنى, من ثروات الشعوب وإبادة اصحاب الارض الأصليين؟
(الرأي 2015-11-02)