ثقافة الثُّنائيات !

الفارق بين ثقافة تتأسس على الثنائيات وبين ثقافة جدلية هو ان الأولى تسجننا في خيارين فقط لا ثالث لهما، فإما الجنة او النار بلا أعراف، وإما الصديق او العدو وإما الجميل او القبيح، والحقيقة ان هناك بعدا ثالثا سقط من هذه المعادلة، هو ما نسميه احيانا اللون الرمادي بين الابيض والاسود. في الثقافة الجدلية هناك مجال متسع لاختلاف ينتهي الى ائتلاف وليس الى خصومة او حرب، وفيها ايضا يصبح مفهوم الآخر متعددا فهو ليس عدوا بالضرورة، لأن الاخ آخر وكذلك الاب والام وابن العم والجار، ولا يمكن وضع هؤلاء الاخرين جميعا في سلة واحدة . وحين قال سارتر في مسرحية جلسة سرية ان الاخرين هم الجحيم اساء الكثيرون فهمه، فالاخرون قد يكونون جحيما في لحظة ما ونعيما في لحظة اخرى لأننا لا نعيش حياتنا كلها على وتيرة واحدة ... وحين بلغت عدوى ثقافة الثنائيات السياسة اصبح المشهد لا يطاق، بحيث يصنف الناس الى بطل وخائن وتقدمي ورجعي، ومؤمن وملحد، وها نحن كعرب ندفع ثمن ثقافة الثنائيات حيث تنعدم المسافة بين الاضداد، رغم ان السياسة التي تعرف بفن الممكن هي علم تطوير وتغيير المجتمعات من خلال اشراك المواطنين جميعا في صناعة مستقبلهم وصياغة مصائرهم. وفي السياسة ما من ثابت غير التغيّر لأن حليف الامس قد يصبح عدو الغد والعكس صحيح ايضا، وها هي الامثلة امامنا بدءا من مصائر شاهات اسيا وافريقيا وليس انتهاء ببينوشيهات امريكا اللاتينية، والمدلل الذي كان يجلس في حضن البيت الابيض الدافىء وجد نفسه ذات يوم حاملا قبره على ظهره كالسلحفاة ويبحث عن ارض ترضى به ميّتا . ان هناك مسافة قابلة للقياس بين الجميل والقبيح، والصواب والخطأ والأسود والأبيض، لكنها محذوفة من ثقافة الثنائيات التي اسقطت البشر العاديين من ثنائية الملائكة والشياطين والاخيار والاشرار لهذا قال كاتب فرنسي ان المؤرخين القادمين سوف يقولون ان أسوأ ما حدث في الألفية الثالثة ومنذ بواكيرها هو عودة جورج بوش الابن الى ما قبل المنطق والعقل الجدلي حين قسّم العالم الى اخيار هم حلفاؤه واشرار هم اعداؤه !!
(الدستور 2015-11-10)