حتى لا تكون قفزة في المجهول

تثير مسودة روسيا للحل السلمي في سوريا قلقا مشروعا ومفهوما لدى المراقبين والسياسيين، فثمة فارق كبير بين ما يقوله الرئيس بوتين وبين ما تفعله قواته على أرض الواقع في سوريا، فإعلانه بأن بلاده تتدخل عسكريا في سوريا لمحاربة تنظيم داعش ما هو إلا سحابة دخان يخفي خلفها إصراره على إلحاق هزيمة بالمعارضة المعتدلة التي تراها بعض الأطراف بأنها قد تصبح البديل المقبول في قادم الأيام. غير أن «النصر» الروسي السريع لم يتحقق إذ تكيّفت قوات المعارضة المعتدلة مع القصف الروسي بحيث أصبح غير فعّال بالرغم من حجم الدمار الذي ألحقه القصف في كل منطقة نالها. الورطة الروسية تفاقمت بعد أن أسقطت طائرة مدنية لها وأصبح واضحا للجميع أن روسيا أصبحت هدفا للتنظيمات المتطرفة، لذلك تبحث موسكو عن مخرج مشرف من سوريا يحفظ لها ماء الوجه وكذلك مصالحها، وتزداد الحاجة لمثل هذا المخرج بعد فشل القوات الروسية في تحقيق أي نصر على أرض الواقع وبعد أن هددت دول هامة في المنطقة بشكل ضمني بأن الأسد سيزول سِلما أو حربا. وعلى هذه الخلفية قدمت روسيا مبادرة لحل الأزمة لتحقيق الانتقال السياسي المنشود. هناك أكثر من مشكلة في المبادرة الروسية، فهي على سبيل المثال تريد إقصاء كل التنظيمات الإرهابية من عملية الانتقال السياسي وتريد خلق الإطار القانوني الدولي المناسب لمحاربة هذه التنظيمات، وهذا الأمر مفهوم بل ومطلوب، غير أنه لا يمكن فهم استثناء الأسد – الذي أثخن جراح شعبه – من التصنيف الإرهابي! وحتى لا تكون المبادرة الروسية احتيالا على المجتمع الدولي يرى البعض بأنه ينبغي أن يتم التعامل مع الأسد بوصفه إرهابيا لا يختلف عن داعش في شيء. لكن بالمقابل هناك من يطالب بضرورة التحلي بالواقعية السياسية ويرى بأن وصف الأسد بالإرهابي يمكن أن يقوض من فرص الحل ويزيد من معاناة الشعب السوري ولا يشجع روسيا أو حتى إيران على تسهيل الحل السلمي، هذا الكلام صحيح، لكن لماذا لا تبعث روسيا بتطمينات مكتوبة تفيد بأن الحفاظ على وحدة سوريا أيضا تستلزم التخلص من بشار الأسد في مرحلة ما من عملية الانتقال السياسي، أما إبقاؤه في الحكم لمدة ثمانية عشر شهرا مع الاحتفاظ بحقه في الترشح في الانتخابات الرئاسية في ظل الواقع الديمغرافي المتغير لهو لعبة روسية مكشوفة ما زالت موسكو ترى بأنه بإمكانها ممارستها بالرغم من إخفاق العدوان الروسي على سوريا من ترجيح كفة الصراع لصالح قوات الأسد.ومن جانب آخر، لا تعني الواقعية السياسية عدم تصنيف المليشيات الإيرانية بانها إرهابية وهذا أيضا ينطبق على قوات حزب الله التي تتدخل بالأزمة وتستهدف المعارضة السورية المعتدلة ولا تستهدف داعش. وإذا كانت موسكو جادة في مسودتها المقترحة فعليها أن تنظر إلى حزب الله ومليشيات إيران بنفس الطريقة التي ينظر بها المجتمع الدولي إلى تنظيم داعش، وأي محاولة للحل دون إبراز هذه النقطة تأتي في سياق الخداع الاستراتيجي الذي تمارسه موسكو. واللافت أن مسودة روسيا ذات النقاط الثماني لم تفلح في خلق الزخم المطلوب، وبالفعل سحبتها روسيا بعد أن سربتها كبالون اختبار فاشل، وبإمكان روسيا أن تقدمها مرة أخرى إن هي وضحت بشكل لا يقبل اللبس بأن الأسد ليس جزءا من أي عملية انتقال سياسي وأن التنظيمات الإرهابية تشمل قوات حزب الله ومليشيات إيران التي تستهدف المعارضة المعتدلة ولا تحارب داعش.هناك ثغرات أخرى في مسودة المبادرة الروسية لا مجال لمناقشتها في هذه العجالة، لكن الواضح أن روسيا التي ما زالت تلعب على عامل الوقت لتغيير الواقع لصالح بشار الأسد وصلت إلى نقطة بدأت تدرك بها بأن مغامرتها في سوريا ليست كمغامرتها في القرم أو أوكرانيا، فهناك كلفة حقيقية ستدفعها روسيا وبإمكان الجانب العربي رفع كلفة العدوان الروسي على سوريا الأمر الذي من شأنه أن يدفع الكرملين إلى تغيير مواقفه باتجاه تحقيق الحل المنشود الذي يخدم الشعب السوري ويحافظ على وحدة سوريا.الرهان في نهاية الأمر هو على وحدة المعارضة السورية وقدرتها على التعايش مع القصف السوري لفترة أطول، وهذا يتطلب مساندة عربية حتى يعرف الروس بأن أوهام النصر لن تقودهم إلا لمزيد من العزلة والاندحار في إقليم يضيق ذرعا بالمجرمين أمثال بشار الأسد وميليشياته.
(الشرق القطرية 2015-11-13)