عُصابـُ(نا) الإلكتروني!

من أطرف ما يمكن أن تشاهده هذه الأيام، تلك الحرب الطاحنة على مواقع التواصل الاجتماعي الأردنية (طبعاً، هناك حرب موازية في الإعلام الفضائي العربي شبيهة)؛ بين أنصار تركيا من جهة، وأنصار النظام السوري وحلفائه الروس والإيرانيين من جهة أخرى.
الاختلاف في وجهات النظر أمر مشروع ومنطقي. لكن ما يتجاوز حدود المنطق أنّك تجد حالة من الانقسام والاستقطاب والتجاذب، ثم الشتائم بأبشع أنواعها على هذه المواقع، وحالة من التوتر الغريبة جداً، وكأنّ طرفا أردنيا هو من أسقط الطائرة الروسية، والطرف الآخر هو الذي فقد الطيّار!
بصراحة، ثمّة ضرورة لـ"تفكيك" هذه الحالة العصابية الإلكترونية وفهمها من قبل متخصصين في علم النفس والاجتماع، لمعرفة أسبابها؛ وفيما إذا كانت أمراً طبيعياً أم غير منطقي ولا عقلاني، لما ينتج عنها من خصومات ومشاحنات وإفراط في الإساءة والتصنيف واستخدام العبارات القاسية.
ما يدفع إلى الاستغراب من مختلف الأطراف، يتمثّل في أنّنا نشخصن ونقزّم ما يحدث من تطورات سياسية في المنطقة، ونمحو من النقاش الحقيقة الساطعة البدهية، والتي تتمثل في أنّ الأطراف كافة؛ تركيا، وإيران، وروسيا، والغرب... جميعهم يبحث عن مصالحه الوطنية في سورية، ويتعامل مع ميزان القوى الموجود، ويضع أقدامه على الأرض، بينما نحن العرب، المغرمين ببشار وأعدائه، نقف على رؤوسنا ونرفع أقدامنا في السماء، أي نفكّر بصورة مقلوبة تماماً!
العرب، جميعاً، هم الغائب الرئيس عن مقاعد الطاولة، بل هم على الطاولة نفسها، أي الكعكة. فالمتحمسون للروس والإيرانيين ينسون أنّهم، في النهاية، يريدون النفوذ الواسع في سورية. ومن يقفون في الخندق الآخر يتجاهلون أنّ المعارضة السورية مجزأة ممزقة، لا تقدم بديلاً، وأنّ "داعش" هو بديل أسوأ من الأسد، وأنّ هناك أقليات وعلويين وحتى طبقة من السنة يخشون من مستقبل أسوأ في حال سقط النظام الحالي بالكلية.
أعجبني تعليق للإعلامية الصديقة السورية ديمة ونوس (ابنة الأديب الراحل سعدالله ونوس)، تتحدث فيه عن شاب سوري يعمل كهربائيا في لبنان، موالٍ للنظام، قال إن حياتهم قبل "الأزمة" أو "المؤامرة" كانت بخير. سألته ديمة عن وضع أهله هناك، قال إنهم يعيشون تحت سلطة "داعش"، وإن "داعش" ليس بالسوء الذي يروّجون له في الإعلام! وقال أيضا إنهم لا يذبحون إلا من يخطئ، وإن أهله في الأساس يعيشون حياة تشبه ما تريده "داعش"! ثم سألني: هل تخافين من "داعش"؟ لا داعي للخوف. ثم تتساءل ديمة: هل صدفة أن يكون الشاب البالغ من العمر 27 عاماً مواليا لنظام الاسد ولـ"داعش" معاً؟!
في محاولة فهم النقاش الجاري محلياً، ثمّة أسئلة مهمة، لاسيما: هل حالة التشنّج في متابعة ما يحدث في المنطقة، والاصطفاف الحادّ، ناجمان عن تغليب العواطف والمشاعر على العقل والمنطق؛ فبدلاً من الحوار بهدوء وعقلانية، ورؤية زوايا الصورة الكاملة، يغلّب الجميع مشاعرهم وعواطفهم؟ وهل هما مؤشر إلى حجم الأحادية أو طغيان الروح الفاشية على أفكارنا، إلى درجة أنّنا، ونحن خارج نطاق المعركة العسكرية والسياسية، ومجرد مشاهدين ومتابعين لها، لا نستطيع تقبل أي رأي آخر، وسرعان ما تغلي النار في بطوننا لأي تعليق مخالف؟!
الوجه الآخر لهذه الأسئلة، والمتعلّق بالناشطين السياسيين الأردنيين، من مختلف الاتجاهات الأيديولوجية والسياسية، هو إذا كنا وصلنا إلى هذه المرحلة من الإقصاء وتشويه الآخر واتهامه في قضية خارجية، فكيف سيكون الأمر لو كنّا نحن وسط تلك الأزمة، ماذا سنفعل ببعضنا؟! هل هذه الثقافة العصابية يمكن أن تنسجم مع دعوى الأطراف المختلفة الإيمان بالديمقراطية؟!
(الغد 2015-11-27)