أوروبا جارتنا الجميلة الحائرة

أوروبا جارتنا منذ تشكلت الأرض، لم تغير مكانها ولا نحن غيّرنا شواطئها الجنوبية امتداداً لشواطئنا المتوسطية، لا تحتاج إلى الجو لتصل من الإسكندرية أو غزة إلى اليونان أو فرنسا ولا أن تركب البحر وتقطع المحيطات، بل بإمكانك أن تنتعل قدميك وتذهب إليها مشياً. شمس واحدة تشرق علينا وتراب هو نفسه الذي يزرع فيه الورد والبرتقال وما هو أشهى، لكن التاريخ مجنون وصراع الإنسان ضد الإنسان شوه الجغرافيا الملتزمة بعوامل البقاء، الحياة للجميع والإنسان أخو الإنسان.

فظلت علاقاتنا معها بين مد وجزر، حرب وسلم، غزانا الرومان والإغريق ثم تعبوا ورحلوا، غزوناهم حتى وصلنا وسطهم وأقمنا دولة في إسبانيا، ثم تعبنا ورحلنا. ثم غزانا إنجليزهم وفرنسيوهم بحروب صليبية قاومناهم ورحلوا. احتلونا من المحيط إلى الخليج ثم أيضاً رحلوا لكنهم دقوا مسماراً ليس أوروبياً في قلب منطقتنا وأسموه «إسرائيل».

في هذه المرحلة من التاريخ تبدو أوروبا حائرة، فثمة من يلعب بعقلها ومن يهدد أمنها ويغويها بالعودة مرة أخرى إلى المستنقع. لكنها تبقى تحن للجيرة وتتوق إلى ما فرضته الجغرافيا، وكم من مرة حاولت أن تتفلت من الهيمنة الصهيونية وأن تكفر عن وعد بلفور لليهود، فهي تعلم أن فلسطين للفلسطينيين وكانت لها علاقات معهم، بل وكانت إحدى مناطق انتدابهم عشية شطب المشروع الصهيوني اسم فلسطين من الخارطة السياسية لا من الذاكرة الوطنية لشعوب حوض المتوسط.

منذ أيام بدأ الاتحاد الأوروبي يطلب وضع علامات المنشأ على الصادرات القادمة من المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية تعبيراً عن عدم اعترافهم باحتلال إسرائيل لأراضي فلسطين الثانية العام 1967.

غير أن «ازعر الحي» نتانياهو أوعز لحكومته بتعليق الاتصالات مع مؤسسات الاتحاد الأوروبي المشاركة في مساعي السلام مع الفلسطينيين وأمر بإجراء إعادة تقييم لمشاركة مؤسسات الاتحاد الأوروبي في كل شيء له صلة بالعملية الدبلوماسية مع الفلسطينيين الخارجية، أمر رئيس الوزراء بتعليق الاتصالات الدبلوماسية مع الاتحاد الأوروبي ومندوبيه في هذه المسألة لحين استكمال إعادة التقييم.

وكان الاتحاد الأوروبي نشر خطوطاً إرشادية جديدة في 11 نوفمبر بوسم المنتجات التي تصنع في المستوطنات الإسرائيلية. وهي خطوة قالت بروكسل إنها فنية ولكن إسرائيل وصفتها بأنها تمييزية وتضر بجهود السلام مع الفلسطينيين.

وتقضي الخطوط الإرشادية الجديدة التي عكفت المفوضية الأوروبية على صياغتها ثلاث سنوات بأن على المنتجين الإسرائيليين أن يضعوا علامات توضيحية على المنتجات الزراعية وغيرها من المنتجات القادمة من المستوطنات المقامة على أراضٍ تحتلها إسرائيل في حال بيعها في الاتحاد الأوروبي ..

ويتبنى الاتحاد الأوروبي موقفاً يرى أن الأراضي التي تحتلها إسرائيل منذ عام 1967 بما في ذلك الضفة الغربية والقدس الشرقية ومرتفعات الجولان ليست جزءاً من حدود إسرائيل المعترف بها دولياً وبذلك لا يمكن أن يكتب على السلع المنتجة هناك عبارة صنع في إسرائيل وينبغي القول إنها قادمة من المستوطنات التي يعتبرها الاتحاد الأوروبي غير قانونية بموجب القانون الدولي.

ووصف نتانياهو إعلان الاتحاد الأوروبي بأنه منافق ومعاييره مزدوجة، قائلاً إن الاتحاد الأوروبي لا يتخذ موقفاً مماثلاً في الكثير من النزاعات على الأراضي في أماكن أخرى من العالم، وقال خلال زيارة لواشنطن في وقت سابق هذا الشهر ينبغي على الاتحاد الأوروبي أن يخجل من نفسه. لا نقبل حقيقة أن أوروبا تسم الطرف الذي يتعرض لهجوم من قبل أعمال إرهابية. (لكأن عصابات اليهود لم تكن أصل الإرهاب قبل 1948)!

الخطوة الأوروبية وإن كانت رمزية إلا أنها تعتبر وخزة ضمير تحدث بين فترة وفترة بعكس الولايات المتحدة التي لم يكن لها ضمير أصلاً منذ إنشاء إسرائيل على مدى النصف الأول من القرن العشرين تم دعم الوجود اليهودي على أرض فلسطين كتنفيذ لوعد بلفور وصك الانتداب الصادر عن عصبة الأمم في العام 1922.

ما سر الدعم الأميركي اللامحدود لإسرائيل؟

مع بدايات استقلال الولايات المتحدة كان الساسة هناك ضد قيام «دولة إسرائيل»، ثم بعدها كانوا ضد الدعم المادي والدبلوماسي غير المحدود للدولة الصهيونية، ولكن المعارضين من الساسة الأميركان للصهيونية كانوا دوماً يتغيرون ويهزمون. اللوبي الصهيوني ما هو إلا قطرة في محيط الحركة الصهيونية..

وهي حركة عالمية ظهرت للعلن في نهايات القرن الثامن عشر هدفها إنشاء دولة يهودية في أي مكان في العالم. في عام 1897 عقد أول اجتماع للمجلس الصهيوني في بازل في سويسرا، وكان من نتائج الاجتماع تأسيس المنظمة الصهيونية العالمية، وانضم تحت جناحها 117 منظمة يهودية في أول عام ثم 900 منظمة في العام الذي تلاه.

اقترحوا أماكن مختلفة لدولتهم كانت فلسطين إحداها بالإضافة إلى الأرجنتين وقبرص وتكساس وأوغندا، ولكنهم استقروا على فلسطين، فأرسلوا اثنين من حاخاماتهم إلى فلسطين لتحري إذا ما كانت مناسبة..

وجاءتهم الرسالة السرية من مبعوثيهما كتبا فيها: «العروس جميلة ولكنها متزوجة من رجل آخر»، فعرفوا أن الفلسطينيين سيشكلون عقبة في وجه قيام دولتهم، فالمسلمون والمسيحيون يشكلون %96 من الشعب هناك ويملكون %99 من الأراضي.

الصهيونية في الولايات المتحدة عرف الصهاينة مبكراً أن حلمهم لن يتحقق إلا بدعم من قوة عظمى، وراهنوا على الولايات المتحدة القوة العالمية الصاعدة، فبدأ الوجود الصهيوني هناك في العام 1880. وكان أحد أبرز مؤسسي الصهيونية هناك «ماكس غوردو» الذي كتب:

«أمل الصهيونية الوحيد هو يهود الولايات المتحدة»، وكذلك الشاعرة «إيما لازارس» - التي زخرفت تمثال الحرية – وكانت من أبرز المسوقين للفكر الصهيوني. وأول علم لدولة الكيان الصهيوني حيك في مدينة بوسطن عام 1891! وكتب نعوم كوهين، المؤرخ اليهودي المعروف: لولا اليهود الأميركان وتأثير الصهيونية على الساسة والإعلام والرأي العام هناك لما ولدت إسرائيل عام 1948.

لقد تم اختراع الإرهاب في أميركا وانطلقت شرارة الحرب عليه أيضاً من أميركا وطبعاً بتخطيط صهيوني. قبل غروب شمس القرن العشرين بقليل، فعندما كان القرن الهرم يلملم ذكرياته مودعاً، صرّح بيل كلينتون رئيس الولايات المتحدة آنذاك قائلاً: «الآن بدأت حرب القرن القادم»..

ويقصد الحرب على الإرهاب ودشن حربه بقصف مصنع الشفاء بالسودان، وقصف معسكر تدريب في أفغانستان، باعتبار ذلك الطلقة الأولى لإعلان الحرب، ولم يكن العالم وقتذاك يعرف شيئاً اسمه «القاعدة»، ولم يكن التطرف المسلح قد ولد بعد.

بدأت عملية صناعة العدو الجديد، وبدأت الآلة الإعلامية الكاسحة بصياغة «المصطلحات» ونحت الألفاظ والشعارات، وصنع معالم المشروع الإعلامي الكبير المعد لصياغة الرأي العام العالمي، وتم الإعداد المبكر لشن الحرب على الشرق الأوسط على يد المحافظين الجدد، الذين يحملون أدمغة محشوة بنظريات«صراع الحضارات»، و«الحضارة الأخيرة السائدة أو آخر الحضارات»..

ووقع الاختيار على العراق لتكون منطلقاً لإعادة صياغة المنطقة، وهذا ما قاله «كولن باول» بالحرف أمام الكونغرس: «سوف يكون العراق منطلقاً لإعادة صياغة المنطقة، من أجل ضمان مصالحنا، ومن أجل ضمان أمن «إسرائيل»»، أما وزيرة الخارجية «كوندليزا رايس» فقد أعلنت أن العراق بعد تحريره سوف يكون نموذجاً للعالم الإسلامي في الديمقراطية ومحاربة التطرف الإسلامي.

فعن أي إرهاب يتحدثون وهم أسرى أخطر إرهاب في التاريخ، نعني الإرهاب الصهيوني الخبيث؟!

(البيان 2015-12-11)