البنك الآسيوي «منافساً» ... للبنك الدولي !

أيام معدودات، ويبرز إلى «سطح» المشهد الدولي «حدث» دراماتيكي مثير، لم تكن الولايات المتحدة الأميركية، بما هي زعيمة الرأسمالية العالمية ومُنظّرَة العولمة والنيوليبرالية الجديدة والمُمسكة بسيف عضوية وشروط منظمة التجارة العالمية وقبلهما ودائماً في سياسات البنك والصندوق الدوليين، تتوقع أن يظهر مثل هذا التحدي الذي قادته جمهورية الصين الشعبية، وسيجد طريقه الى التجسد والبروز في العام الجديد 2016، بعد أن انضمت إليه دول «رأسمالية» عديدة، وخصوصاً من حلفاء الولايات المتحدة الأساسيين في عالم ما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وسياسة الأحلاف العسكرية و»الأطواق» التي انتهجتها واشنطن ازاء الاتحاد السوفياتي ولاحقاً روسيا الاتحادية بعد انتهاء الحرب الباردة، ومحاصرة الصين عبر عسكرة بحر الصين والمحيط الهادئ واحتضان تايوان واغراء الدول المجاورة للصين وخصوصاً تلك التي «تُعاديها» أو تتحسّس منها لأسباب عِرقية وأخرى ايديولوجية وثالثة تحت الضغوط الأميركية المكثفة مثل: سنغافورة وفيتنام والفلبين.
البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، سيكون نسخة جديدة ولكن مُطَوّرةً وذات أفق «أقل» رأسمالية واستتباعاً و»سياسة» وايديولوجية، من تلك التي سار عليها البنك الدولي، الذي كان وما يزال أداة تأديب في يد الرأسمالية الاميركية والغربية الصرفة، ما بالك في «وصفاته» التي تُدمر اقتصادات الدول النامية وتُوسِع الهُوة بين حكوماتها والشعوب، عبر اجبارها على اتباع سياسات اقتصادية تستهدف جباية المزيد من أموال الفقراء لصالح الطبقة الرأسمالية بوظائفها ومهماتها وأدواتها العديدة، والتي تستفيد دائماً من تلك «الوصفات» التي لا تكتفي بتدمير القطاعات المُنتجة وغير القادرة على المنافسة كالمُنتجات الزراعية وتلك الصناعية ذات القاعدة التكنولوجية والعلمية المتواضعة، مُقارنة بما هي عليه المُنتجات المُستوردة والتي غالبيتها أوروبية، فضلاً عما كرّسته اتفاقية منظمة التجارة العالمية من قوانين تنهض على فتح الحدود بلا رقابة أو عراقيل أمام الرساميل الأجنبية (في الاتجاهين) وحريتها غير المحدودة اضافة الى المُنتجات والايدي العاملة (الاخيرة خصوصاً لم تُطبق وَوُضِعت امامها العراقيل وبخاصة في حركة الأيدي العاملة تجاه الدول الغنية في الشمال الرأسمالي).
وإذا كان يُسجَل للصين انها هي صاحبة «الفكرة «في إنضاج مشروع البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية قبل عامين، عندما أعلن الرئيس الصيني شي جين بينغ دعوته غير المسبوقة هذه، والتي لقيت استجابة سريعة ولافتة نظراً للدور الاقتصادي والمالي الذي تلعبه الصين في عالم اليوم، بما هي «مصنع العالم» كما باتت تُوصَف والمُرشَحة للجلوس في المرتبة الأولى عالمياً (اقتصادياً بالطبع)، فان المعارضة الأميركية (حتى لا نقول الرفض) للمشروع الصيني، لم تجد صدى واسعاً حتى لدى أقرب حلفائها وعلى رأسها الدولة ذات الاقتصاد الأقوى اوروبياً ونقصد ألمانيا، كذلك كانت الحال مع بريطانيا واستراليا وإيطاليا وكوريا الجنوبية والفلبين، ما منح اشرعة «البنك الصيني» العتيد... رياحاً جديدة، وجدت ترجمتها في الإعلان الذي صدر عن بيجين يوم 25 الجاري والذي يقول: انه تم رسمياً تأسيس» البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية» ومن المُتوقع ان يبدأ عملياته في أوائل العام 2016.
وإذا كان من نافل القول، الاشارة الى ان البنك الذي سيركز في البداية - كما قال مؤسسوه - على تمويل مشروعات في مجالات الكهرباء والنقل والبنية التحتية الحضرية في آسيا، ليس جمعية خيرية أو سيمنح قروضاً بلا ضوابط أو اشتراطات، فإن من المهم أيضاً التذكير بان البنك البالغ رأس ماله 50 مليار دولار، لن يكون أداة سياسية أو ان سياسته المالية ستُحاكي ما دأب عليه البنك الدولي، الذي ما يزال يحمل اسم البنك الدولي للانشاء والتعمير، لكنه سرعان ما تحول الى ذراع للسياسات الأميركية المختلفة، سياسية ام اقتصادية ام تنموية وحتى في ممارسة الضغوط على الحكومات المُقترضة من البنك للسير في رِكاب الاستراتيجية الكونية الأميركية وخدمة لمصالحها الأنانية ونوازعها الاستعمارية، اكثر مما كان (البنك الدولي) عوناً للشعوب او نافذة أمل لاقتصاداتها المُنهكة والمُستنزفة بفعل الهيمنة الاستعمارية السابقة في تلك البلدان ولربط اقتصاداتها باقتصاد الدول المُستعمِرة والتي زادت تبعية في ظل وصفات البنك والصندوق الدوليين، وما يتبعها من قرارات واجراءات رأسمالية، صبَّت كلها في صالح الرأسمالية الغربية على حساب الشعوب الفقيرة، سواء في قرار واشنطن بانتهاء مفعول اتفاقية بريتون وودز ام في اتفاقية «الجات» ولاحقاً «الخصخصة» وتدمير القطاع العام عبر بيعه كما «أملاها» ريغان وتاتشر, وجاءت اتفاقية منظمة التجارة العالمية لتُطْبِق على ما تبقى من الاقتصادات الوطنية التي حاولت النجاة من الاخطبوط الرأسمالي الذي ازدادت شراهته بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ومسارعة منظرو الرأسمالية الى نعي الاشتراكية والعيب على فلسفتها الاقتصادية، والقول إن الرأسمالية قد انتصرت وهي خيار البشرية «الوحيد»..
بروز البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، سيُغيِّر من قواعد «اللعبة الاقتصادية (إن صح القول) وسيُجبر البنك الدولي على تغيير سياساته التي لا تخدم الا مصالح الرأسمالية العالمية، ويبقى الرهان على نجاح البنك الجديد في تطبيق معايير الشفافية والعدالة وعدم تسييس «الاستثمار» في البلدان النامية او السماح لثقافة الفساد بالانتشار.
(الرأي 2015-12-28)