ثرثرة "خلوية"!

يبدأ مع زوجته اتصالا هاتفيا قبيل عودته للمنزل. لا أهمية لما يرد في الاتصال، بل حروف تتشابك كيفما اتفق، وسؤال تلو آخر في محادثة مفتوحة عن ماهية وجبة الغداء التي ستتناولها العائلة، مرورا بأوضاع الأولاد، ووصولا إلى مناقشة موضوع قديم جديد عن شخصية حماته القوية. ويستمر الأمر هكذا من مغادرته العمل حتى الوصول.
آخر البيانات الرسمية كشفت أن الأردنيين يتحدثون بمعدل 35.4 مليار دقيقة اتصال في العام الواحد، ما يعني 3 مليارات دقيقة في الشهر. والسؤال هنا: ما الذي يقوله الأردنيون في هذه الدقائق التي تعادل مئة مليون دقيقة في اليوم؛ هل له علاقة بالإنتاج أو التقدم والتطوير والنمو لمساندة الاقتصاد على المضي وتجاوز الصعوبات؟ الإجابة لا تدعو إلى الطمأنينة، فبنسبة تفوق 90 % -وفقا لتأكيدات متخصصين نفسيين وأساتذة في الاقتصاد والسلوك الاستهلاكي- يمكن القول إن هذه المكالمات محض ثرثرة لا فائدة منها، وأن هذا الوقت مهدور، ومثله المال الذي يقع تحت قائمة التكاليف لهذه المكالمات.
وبرغم هذا النهر الجارف من المكالمات، إلا أن علاقات الناس فيما بينهم ليست في أحسن أحوالها؛ فلا تنطوي هذه المليارات من الدقائق على ترابط اجتماعي أو أسري، كما أنها لا تعيد إنتاج الوعي والسلوك الفردي على نحو تنافسي. إذ إن كثرة الحديث عبر الهاتف الخلوي وبهذه الشهية تجعل جل السكان هنا فريسة للكلام المتكرر والممجوج أحيانا، فلا يعقل أن تستغرق مكالمة أحدهم مع زوجته ثلث ساعة، والمعلومة اليتيمة في الاتصال هي أن الزوجة تريد من زوجها شراء 2 كيلو خبز!
ورغم أن الحكومة ضاعفت الضريبة الخاصة على الخدمة الخلوية قبل 3 سنوات، ناهيك عن باقي الضرائب المفروضة على خدمات الاتصالات، إلا أن إصرار الشارع على الحديث لمجرد الحديث يتغلب على أي عوائق في وجه التوسع حيال استخدام الاتصالات الخلوية، ونجد أن قاعدة اشتركات الخلوي في البلاد تجاوزت 11 مليون اشتراك، كما ارتفع عدد مستخدمي الإنترنت إلى ستة ملايين شخص، وبنسبة انتشار تقارب ثلاثة أرباع عدد السكان.
تشير الدراسات غير الرسمية إلى أن اهتمامات الأردنيين تتركز في الإنفاق على الغذاء، والذي يحصد نحو 60 % من دخولهم الشهرية. وتتحول نسبة لا بأس بها إلى الاتصالات، ولاحقا الرعاية الصحية والتعليم والتدخين، في ظل تشوهات يتشابه فيها الفرد مع نهج حكومته في الإنفاق الذي لا يقود إلى الإنتاج، أو لا يقع حتى ضمن قائمة الأولويات المنطقية.
قد يقول استشاري نفسي أن ثرثرة الاتصالات هذه تعود إلى حالة عامة من الإحباط الاجتماعي والاقتصادي، وقبلهما السياسي؛ فيتحدث المواطنون فيما بينهم بإسهاب وفقا لبعثرة ذهنية، أو أنهم تعودوا على استخدام الهواتف المحمولة لأسباب منطقية أو حتى من دون داع. لكن المقلق في الأمر أن الخسائر الاقتصادية ستتراكم تبعا لسلوك استهلاكي لا يجر إلا الخيبات، في ظل إهدار مفتوح للوقت والمال.
(الغد 2016-01-19)