الإرهاب والحريات
![الإرهاب والحريات الإرهاب والحريات](https://s3-eu-west-1.amazonaws.com/static.jbcgroup.com/amd/pictures/4bda93161eea98afff0a01251d9f8b0a.jpg)
يحيل الإرهاب إلى الاستعمال المنظم للعنف بمختلف أشكاله المادية والمعنوية بصورة فردية أو جماعية وبشكل يثير الرّعب والخوف ويخلف خسائر جسيمة في الفئات والمنشآت والآليات المستهدفة، بغية تحقيق أهداف سياسية أو شخصية بما يتنافى وقواعد القانون الداخلي والدولي.
لا تخفى مخاطر الإرهاب على الدولة والمجتمع وتأثيراته المدمرة في الديمقراطية والتنمية، فممارسته تجسد اعتداء صارخاً على حقوق وحريات الأفراد والجماعات بكل تجلياتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية..
كما أنه يرتبط بالترويع والقتل والإقصاء وفرض الرأي الواحد وإرباك الحياة العامة والخاصة للأفراد، كما أنه يحيل إلى مصادرة الحق في الحياة وفي بيئة آمنة وسليمة.. وهو يشكل بذلك أسلوباً عنيفاً ومنحرفاً في الدفاع عن المواقف والآراء، وخرقاً لكل القوانين والضوابط الدينية والأخلاقية..
يخلف الإرهاب حالة خطيرة من الارتباك والهلع داخل المجتمع، وكثيراً ما سعت الجماعات الإرهابية إلى تهديد وتكفير وإسكات كل الأصوات المنافسة والمختلفة مع تصوراتها وأفكارها؛ بل بلغ الأمر إلى حد ممارسة الاعتداء والقتل في مواجهة أفراد لا يملكون من السلاح غير أقلامهم وآرائهم ومواقفهم.. بما يجعل منه (الإرهاب) أداة للإجهاز على الحريات والفكر وصد الاختلاف وتكريس الرأي الواحد..
لا تتوقف التداعيات السلبية للإرهاب على الحقوق والحريات عند هذا الحد، بل إنها تخلق حالة من الهلع والخوف التي توظفها بعض الأنظمة السياسية بصور مبالغ فيها أحيانا؛ لتكريس الهيمنة والاستبداد وتصفية الحسابات مع الخصوم والقوى المعارضة..
من الطبيعي جدّا أن تدفع العمليات الإرهابية الدول نحو بلورة جهود وسبل لمحاصرة الظاهرة، عبر اعتماد آليات ومداخل مختلفة في هذا الصدد.
ورغم الضرورات الملحّة التي يقتضيها إعمال هذه التدابير، إلا أن الأمر كثيراً ما تشوبه بعض الإشكالات، في علاقة ذلك بالموازنة بين المحافظة على الأمن من جهة، واحترام الحقوق والحريات من جهة أخرى، الأمر الذي يجعل الكثير من هذه الإجراءات محط انتقاد من لدن العديد من الهيئات السياسية والحقوقية التي تحذر من المبالغة في اعتماد التدابير الأمنية الاستثنائية على حساب مداخل وقائية أخرى أكثر نجاعة في صد الظاهرة.
لا يتوقّف استغلال الأحداث الإرهابية على الأنظمة الاستبدادية التي تجد فيها ذريعة لبسط التحكم في المشهد السياسي وتخوين القوى المعارضة والتضييق على الحريات، بل إن الكثير من الديمقراطيات الغربية سقطت بدورها في هذه الممارسات، فقد كانت الولايات المتحدة سباقة إلى توظيف التعاطف الدولي جراء الأحداث الإرهابية التي لحقتها بتاريخ 11 سبتمبر/ أيلول من عام 2001، لتقود حملة غير مسبوقة لمكافحة الإرهاب، وظفت فيها كل الإمكانيات والسبل، إلى حد المجازفة بخرق ومصادرة الكثير من الحقوق والحريات.
فعلى المستوى الداخلي، شكلت الحرب التي أعلنتها على «الإرهاب» ذريعة للإجهاز على الكثير من الحقوق والحريات من قبيل التضييق على حرية تحرك وسفر بعض الأمريكيين من أصول شرقية، وتوقيف المشتبه فيهم واحتجازهم لمدد طويلة بدون توجيه تهم إليهم ولا محاكمات، مع منعهم من اللقاء بمحاميهم..
كما فجرت الأحداث أعمال التمييز العنصري التي تراوحت بين القتل والضرب وإطلاق النار ومهاجمة أماكن العبادة الخاصة بالمسلمين والسيخ والهندوس.. إضافة إلى السقوط في خرق سرية المكالمات الهاتفية والمراسلات البريدية والإلكترونية لبعض الأشخاص، واقتحام البيوت لإجراء أشكال مختلفة من التفتيش التعسفي دون إذن قضائي مسبق.. كما تمّ تسريح بعض العمال الأمريكيين من ذوي أصول شرقية من عملهم دون تقديم مبررات قانونية، وقد نددت منظمة العفو الدولية في حينه بهذه المعاملات السيئة التي تعرض لها آلاف المسلمين والعرب المنتمين لحوالي 20 دولة.
أما على المستوى الخارجي، فقد جاءت معظم الإجراءات الأمريكية المرتبطة بحملتها لمكافحة «الإرهاب» متعارضة مع مقتضيات الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والاتفاقيات والمواثيق الدولية المرتبطة بحقوق الإنسان؛ فيما أتاحت هذه الحملة المجال لمجموعة من الأنظمة لتصفية حساباتها مع معارضيها، إضافة الى أنها سمحت بالتضييق على نشاط حركات التحرر الوطني في العالم.
ذلك أن العديد من الأنظمة الغربية اتخذت إجراءات استثنائية ورفعت شعار «حريات أقل من أجل وضع أمني أفضل» في مواجهة معضلة الإرهاب، فيما لم تتردد «إسرائيل» في اعتبار الجرائم اليومية التي يقترفها الجيش «الإسرائيلي» في حق الشعب الفلسطيني دفاعاً مشروعاً في مواجهة «الإرهاب» الفلسطيني..
وقد اجتاحت عدوى خرق حقوق الإنسان الجسم الأوروبي في أعقاب تنامي الإرهاب، حيث تم تصعيد لهجة التصريحات المناهضة للمهاجرين، فيما تم تقييد حقوق وحريات طالبي اللجوء..
تنامت ظاهرة الإرهاب في السنوات الأخيرة، وزاد من خطورتها تضاعف مناطق التوتر في العالم التي تشكل فضاء خصباً لتمدد وانتعاش الجماعات المسلحة والمتطرفة التي تستثمر الأوضاع المتردية والمرتبكة في تجنيد عناصرها وتوسيع دائرة عملياتها.. وهو ما تؤكده الأحداث الإرهابية التي لحقت العديد من الدول كالعراق وسوريا وتونس وفرنسا ومصر.. في الفترة الأخيرة.
وإذا كان الأمر يتطلب قدراً كبيراً من اليقظة والتنسيق الدوليين في مواجهة ظاهرة تهدد السلم العالمي والإنسانية جمعاء، واعتماد سبل شمولية ووقائية في هذا الإطار، فإن الأمر يتطلب أيضا الحرص على الموازنة بين مكافحة هذه الظاهرة الخطيرة من جهة، واحترام الحقوق والحريات من جهة أخرى.
لقد تصاعدت مطالب المنظمات الحقوقية في عدد من الدول كفرنسا وتونس وتركيا.. الداعية إلى تجاوز التدابير الاستثنائية المفروضة في هذا السياق، بالنظر إلى آثارها السلبية في ممارسة عدد من الحقوق والحريات.
لا يمكن تبرير الإرهاب بأية ذريعة، فهو سلوك مرفوض بكل المعايير، غير أن مجابهته ينبغي أن تكون عقلانية وشمولية، خصوصاً وأن التضييق على الحريات والحقوق يعبر في أحد جوانبه على الانصياع لضغط الإرهاب وتحقيق هدفه المرتبط بالترويع وبسط حالة من الشك والهلع والخوف داخل المجتمع..
وتبرز الكثير من الدراسات والأبحاث أن تعزيز الحقوق والحريات ودعم آليات المشاركة السياسية للشباب والمرأة وإعادة الثقة في المؤسسات السياسية والدستورية.. كلها عوامل تسهم في محاصرة العنف بكل أصنافه..
(المصدر: الخليج 2016-02-05)