عن «الاستاذ» هيكل.. الذي رحل

تم نشره الخميس 18 شباط / فبراير 2016 01:14 صباحاً
عن «الاستاذ» هيكل.. الذي رحل
محمد خروب

مات محمد حسنين هيكل، وما لأحد خرج الى هذه الدنيا، أن يبقى عليها مهما طال به الزمن، نبياً كان ام رسولاً، مُصلِحاً كان ام طاغية، مُثقفاً عضوياً ام مجرد ضيف عابر على فضاء لم يعرفه او يألفه، نظراً لنقص او عيب او تطفل او فضول او تزوير.. امرأة كانت ام رجلاً، قديساً ام زنديقاً.. وطنياً مخلصاً ام خائناً وآفاقاً.

وإذ بقي «الاستاذ» مالئ الدنيا وشاغل الناس في منطقة لم تعرف الهدوء, ولم يتركها المُستعمِرون للحظة واحدة كي تلتقط انفاسها او تعيد بناء اوطانها او تستعيد حقوقها او تنال قسطاً من ثرواتها التي نهبها المُستعمِرون واعوانهم في الداخل، فإن هذا «الجورنالجي» الذي تعِبَ على نفسه ولم يترك فرصة تضيع منه، كي ينهل من الثقافة ويُثري تجربته ويُغْني من «لغاته» ويقترب من الخطر حدود التعرض للموت. كان عَلَمَاً بارزاً في مشهدنا الاقليمي خصوصاً في المشهد المصري, بما هو الاعمق والاوسع والاكثر إفصاحاً عن العروبة الصحيحة والقومية الناضجة والثقافة الارحب والاوسع ,الاكثر تقدمية واهتماماً بمصالح الأمة وانحيازاً للغالبية العظمى من الجماهير العربية, صاحبة المصلحة الحقيقية في الثورة والتغيير وامتلاك الأمة لثرواتها وتمسُّكاً بحقوقها.

كما هو جمال عبدالناصر الذي رحل عن دنيانا قبل نصف قرن تقريباً، ما يزال حاضراً في شخصه وإرثه وتجربته وحياته القصيرة التي كانت ثرية ومأساوية وصعبة وعظيمة في الان ذاته، وما يزال اعداؤه وخصومه، وعلى وجه التحديد جماعات الاخوان المسلمين، يحقدون عليه ويسعون – عبثاً – الى تشويه سمعته واغتياله في الممات – كما حاولوا في حياته – فإن هيكل هو الآخر رغم ما تعرض له من تشويه وحملات لشيطنته والحط من قيمته وتعييره والتصيد لاخطائه او خطاياه، سيبقى في بؤرة الحدث والاستهداف, منذ الان والى أمد مقبل طويل، لانه بالفعل «صحفي» استثنائي في المشهد العربي، يُثير الاعجاب في نفوس الساعين للمعرفة والتعمق والاطلاع, كما يثير الغضب والحقد في نفوس اصحاب «الباع» القصير ومُنتحلي الثقافة والمعرفة وخصوصاً «المهنة» التي ليست في نظرهم سوى ارتزاق وتزلف واستجداء وتزييف، لا سند ثقافياً او معرفياً لها, ما بالك في انحدار الاخلاق وتدهور الذائقة وانعدام الضمير؟

هنا والان... تحضر مسيرة هيكل الصحفي والسياسي والمؤرخ والمُطّل عن قُرب, على المشهد السياسي والاعلامي ودهاليز الاجهزة ودروب الاحزاب وأزقتها.

صحيح ان «الرجل» خرج من جلباب عبدالناصر أو تلّحف به, لكنه لم يكن إمّعة أو صفراً, بل كان لديه ما يقوله وما يفعله وما يطرحه وما يُناقِش فيه وما يقترحه ويدافع عنه, لم يكن صاحب قرار لكنه ساهم في صنعه, شذب صيغته وأسهم في اخفاء – أو اظهار – هدفه, كان بعضه بالون اختبار وكان بعضه الاخر خبراً ويقيناً وكشفاً.

لم يتنكر لعبدالناصر ولا ادّعى لنفسه انجازاً اصطنعه او ساهم في الايحاء بأن الرئيس الراحل, كان يعتمد عليه, اللهم الا في كتابة الخطب بعد أن يكون (ناصر) قد وضع له الخطوط العريضة أو ناقشه في أمر ما, لكنه – هيكل – وقع في الخطيئة الكبرى التي قارفها ودفع ثمنها – والشعب المصري عموماً والعرب وقضية فلسطين خصوصاً – عندما انحاز الى انور السادات في صراعه المُفتعَل مع ما وُصِفَ بِـ»مراكز القوى» في 15 ايار 1971, وكيف انتهت الحال بهيكل, بعد أن تمكن السادات من السلطة ,الى السجن (بعد عشر سنوات في العام 1981) حيث المرارة كانت تفيض في كتاب هيكل الشهير «خريف الغضب» الذي لم يُفلِح في التكفير عن تلك الخطيئة الكبرى التي قارفها (هيكل) في منتصف ايار 1971, ليس فقط في أن السادات مضى في مشروعه الاستسلامي وصلحه المنفرد مع اسرائيل حتى النهاية (بعد أن كان قد انهى دولة عبدالناصر وباع القطاع العام وشطب مُكتسبات العمال والطلبة والفلاحين, تحت عنوان سياسة الانفتاح الاقتصادي التي وصفها الراحل احمد بهاء الدين بسياسة السداح مداح).. بل إن السادات ادار ظهره للعرب وانخرط في مشاريع اذكاء الحروب الاهلية العربية في لبنان وغير لبنان, فضلاً عن اشعاله – والاخوان المسلمون – الصراعات الطائفية في مصر بين «عنصري» الامة.

ليس هيكل نبياً أو قديساً, لكنه شخصية استثنائية استطاع ان يُكَوِّن نفسه بجهوده الخاصة, ربما يكون «انتفع» من قربه من السلطة, الا ان ذلك يطرح سؤالاً عن الالاف من الصحافيين والاعلاميين العرب القريبين جداً من السلطة في بلادهم وغير بلادهم, لكنهم لم يصلوا الى مرتبة هيكل أو حتى ادنى منها بكثير, لا في الثقافة ولا في المهنة ولا في التحليل السياسي ولا في المكانة التي حجزها هيكل لنفسه ولم تُمنَح له, في المشهد العربي كما في المشهد الدولي.. له اخطاء... نعم, له اراؤه المُسبَقة احيانا.. نعم, لكنه يستحق الاحترام والتقدير, لأن اضاء في المشهد العربي الثقافي والاعلامي والصحافي «نجماً» ما يزال يضيء ويشع, مُتمثِلاً في ما حققه في الاهرام وخصوصاً في مركز الاهرام للدراسات السياسية و الاستراتيجية الذي اقامه, وما يزال يضم في جنباته خيرة الباحثين والكتاب والمثقفين, كما جمع هيكل ذات يوم من العام 1968, بين توفيق الحكيم, ونجيب محفوظ ولويس عوض وغيرهم..

رحم الله هيكل.

(الرأي 2016-02-18)



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات