«الأستاذ» امتلك المعلومة والمعرفة وناصية الحديث ورحل..
اتفق المصريون على ثلاثة ألقاب أطلقوها على ثلاثة مصريين كان الشارع المصري يرددها، قبل نصف قرن واكثر، وبكل فئاته وطبقاته. هم من معالم مصر في الزعامة والصحافة والفن في ذلك الزمن الجميل: عندما يقول المصري عبارة قال «الريس» يعني جمال عبد الناصر، وغنت « الست» يعني ام كلثوم، وكتب « الاستاذ» يقصد محمد حسنين هيكل، فالمعرفة هنا لا تحتاج الى ذكر الاسماء.
ويوم أمس رحل «الاستاذ»، وهو الذي كان يحرك فينا الحنين الذي يعيدنا الى مصر، لأنه ترك لنا ما يكفينا للكتابة عن مصر، مصر الناس والقمح والقطن والطين والنيل، فهو القادم من ذلك الزمن الجميل الذي اختلط فيه الوطني بالقومي في زمن المد القومي وعصر التحرر.
يمثل محمد حسنين هيكل ظاهرة قد لا تتكرر، هو شديد الذكاء امتلك المعلومة والمعرفة وناصية الحديث فتميز، واختار مهنة الصحافة وتجربة السلطة ومرارة السجن، ولكنه اتقن السير بمعايير السلامة حتى الوصول الى نهاية الطريق.
اقترب من عبد الناصر كثيرا فامتلك القوة وعزز الثقة بالنفس، فكان يجلس قبالة القادة، يحاورهم كأنه واحد منهم، كان يعرف أن للصحافة سلطتها وسطوتها وسلطانها، وكان يفضل لقب الصحفي هيكل، رغم انه كاتب ومؤرخ ومفكر كبير.
أمضى هيكل ثلاثة ارباع القرن في مهنة الصحافة والكتابة بلا انقطاع، لاعتقاده ان الصحفي لا يتقاعد، ولا يهجر الكتابة، اذا امتلك القدرة على المتابعة وقوة الذاكرة، والثابت أنه لا يوجد في العالم اي صحفي واصل عمله بنشاط طوال هذه المدة، وهو الذي حاز على لقب اكبر واشهر صحفي عربي، بل استحق هيكل لقب عميد الصحافة في العالم بامتياز، حيث لا يوجد من يجاريه في مدة مزاولة عمله، ولا في عدد مؤلفاته ومقالاته في العالم.
ومنذ الخمسينات كان لهيكل موقفه من حركة الاخوان المسلمين في مصر، وظل ثابتا على هذا الموقف حتى آخر دقيقة من حياته، وان كان مؤمنا بالحوار، الا أنه كان يؤيد مبدأ فصل الدين عن الدولة، ورافضا للعنف والفوضى والارهاب، لذلك كان الناصح للسلطة في توجهاتها، من اجل التوازن في سياساتها الخارجية، بشكل مباشر، أو عبر كتاباته واحاديثه السياسية، خصوصا حول التعاطي والتعامل مع الازمات المحلية والعربية والاقليمية والدولية.
هذا النهج اغاظ التيار السياسي الاسلامي في مصر، ودفع البعض لممارسة الانتقام من هيكل حيث تم اقتحام بيته الريفي في مزرعته في برقاش واحراق مكتبته التي كانت تحتوي على نفائس نادرة من الكتب والمخطوطات.
وفي النهاية، ان كنت تحبه وتؤيده في موقفه، أو كنت في الخندق المعارض له، لا يمكن لك الا أن تعترف أنه ظاهرة عربية قد لا تتكرر، وقامة كبيرة على صعيد الابداع والتعبير والموهبة الفريدة..انه خسارة عربية، له الرحمة والمجد.
(الرأي 2016-02-18)