الشيب والشباب في العمل الوطني والسياسي
كانت أكثر من رؤية إبداعية تلك التي أضافها المخرج مصطفى العقاد رحمه الله على نهاية فيلم المجاهد عمر المختار في مشهد الإعدام الأخير، المختلف حول دقته التاريخية، يوم سلم الشيخ قبل إعدامه نظارته وقرآنه لطفل صغير من الحضور في رسالة واضحة أن جيل الشباب هو من سيحمل الراية ويأتي بالنصر المنتظر الذي ضحى الكبار من أجله.
مشهد تسليم الراية بما فيها من تحميل للأمانة وتداول للسلطة كان مألوفا في تاريخنا العربي والإسلامي ويصفه الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة مؤتة عن صحابة ثلاثة أشداء تناوبوا في القيادة والاستشهاد من أول زيد بن حارثة مرورا بجعفر بن أبي طالب الى عبد الله بن رواحة حتى أخذها سيف الله المسلول الذي استحدث رؤية عسكرية جديدة في الانسحاب المنظم والتمويه أعجبت الرسول صلى الله عليه وسلم بعد رجوعهم الى المدينة، وجعلته يبشر بنصرهم وعودتهم القريبة.
وفي سياق أكثر خطورة سلم الرسول صلى الله عليه وسلم القيادة الى أسامة بن زيد، وهو لم يبلغ العشرين من عمره لجيش انطلق الى بلاد الشام في مرحلة جدُّ دقيقة من حياة المسلمين، كان النبي صلى الله عليه وسلم فيها يعاني مرض الموت، ويستفيق من جهد الحمى موصيا ببعث الجيش بقيادة أسامة لا أحدا سواه، وكان باستطاعته في هذه المرحلة الحاسمة أن يولي الأمور لأبي بكر أو عمر وغيرهما من كبار الصحابة، ولكنها كانت رؤية الرسول الثاقبة ومعرفته بنفسية وهمة الشباب الوثابة المتوقدة عندما أوصى «عليكم بالشباب ...فإنهم نصروني عندما خذلني الشيوخ».
ولكن الحال تغير في مراحل الاستبداد والتسلط وتوريث الحكم، فأصبح من يدخل عالم السياسة يبقى فيه في الأغلب الأعم الى الأبد إما بشخصه أو بشخص أولاده وعائلته، وأصبح الحكم محصورا في فئة لا تعترف بتواريخ انتهاء الصلاحية أو الشعبية!
وليس في طلب التغيير وإشراك الشباب انقلاب أو نكران لفضل الأوائل والكبار وخبرتهم وتضحياتهم، بل محاولة للتماهي مع تحديات العصر ومتطلبات التجديد التي تفرض بالضرورة اختلافا بين رؤى الأجيال المتعاقبة وطريقة التعامل مع المشكلات.
والكبار في ميدان السياسة والنضال ليسوا طيفا واحدا، بل هم مذاهب عدة، فقسم ارهقه العمر وخذلته الهزائم، وأسلمته لليأس فتبنى النهج البراغماتي التصالحي الذي يريد الخروج بأقل الخسائر، ولو كانت المكاسب شبه معدومة، وقسم يبحث عن مجد شخصي يخلده في الذاكرة بعدما رحل الرفاق وتركوه وحيدا في زمن لم يعد للثوابت فيه أي معنى في مركب يقوده النفعيون والمرتزقة ورجال الأعمال ورؤساء العصابات، وقسم ما زال يركب موجة التنظير والخطابة لحركات ومبادئ فشلت في تحقيق مشاريع الوحدة والانتصار، وقسم قليل شاب شعره وما زال ممسكا ببندقيته ومنزرعا في مخيمه يرنو الى تحقيق حلم لا يعرف الا تفسير العودة والتحرير الكامل.
وبالنظر في تاريخ بعض الثورات الحديثة، نجد أن اللحظة الحاسمة في تحقيق النصر كان وقودها الشباب مدعومين بحكمة وتشجيع الشيوخ، وفي هذا يستوي العرب وغيرهم، ففي إيرلندا الشمالية التي لم ترضخ لبريطانيا ولا لدعاوى السلام الا بعد أن حصلت اعترافا ومساواة في الحكم والسلطة، كانت القيادة في يد شابين في الثلاثينيات من العمر هما جيري آدامز ومارتن ميجينس، وقد ظل دستور حزبهما، الشين فين، ينص صراحة على تحرير واستقلال إيرلندا ولم يتراجع عن ذلك حتى بعد توقيع الهدنة واتفاقية الجمعة العظيمة حتى يبقى واضحا للعيان، الأصدقاء منهم و الأعداء، أنهم يسيرون في طريق السلام بقدم و قدمهم الأخرى مستعدة للحرب والنضال وهي سياسة نابليون في أن أفضل وسيلة للدفاع هي الاستعداد دائما للهجوم
ولكننا للأسف لا نستطيع أن نباهي بمثل ذلك في الدول العربية فقضايانا أصبحت هرمة تستعد للفظ أنفاسها الأخيرة على مذبح التفريط، وذلك لهرم القيادات التي تتعامل مع الشباب بفوقية وتسخيف وعدائية؛ خوفا على كراسيها، بل إن بعض الحكومات والقيادات تعمد إلى إبقاء الشباب العربي غارقا في الملاهي أو لاهثا وراء لقمة العيش حتى لا يتسنى له التفكير بالسياسة، فالإصلاح للمخدر والمخمور والجائع والعريان ومهدور الكرامة ترف لا يستطيع اقتناءه!
والشباب أيضا لا يأخذون زمام المبادرة في الثورة على الحرس القديم والفكر التقليدي ويرضون بترك المجال على أمل أن تتغير الظروف في يوم ما، أو العيش في جلابيب الآباء والأجداد والرموز وظلهم الى أن تحين ساعاتهم فيرثون مكانهم!
يروى أن نابليون لما سطع نجم انتصاراته كقائد عسكري كان يجلس مع جنوده على طاولة في إحدى الحفلات، فجاءه رسول يدعوه للجلوس على طاولة الشرف مع كبار القادة فقال له: طاولة الشرف حيث اجلس أنا، وما هي الا سنوات قليلة أصبح بعدها رئيس فرنسا، والأمثلة كثيرة في التاريخ، وبحاجة فقط الى من يتبعها ويبني عليها، وبحاجة الى شيخ شريف ينزل من علٍ وهو ما زال عاليا محترما في نفوس الناس دون شائبة فساد أو خيانة أو تفريط ويفسح المجال للشباب ليكملوا المسير، ويتابعوا من حيث وقف لعل الله يأتي بالفتح على أيديهم.
(السبيل 2016-03-17)