أوروبا محاصرة وتنزف
تبدو بروكسل قلب الاتحاد الأوروبي رمزاً، ومقرّ حلف "الناتو"، محاصرة من التنظيم الإرهابي "داعش". بروكسل تنزف دماً، وتبدو عاجزة، بكل ما تمثله من قوة ومعرفة، عن وقف الاختراقات الأمنية لـ"داعش". الواحد تلو الآخر في أكثر من عاصمة أوروبية وحتى الولايات المتحدة رمز القوة العالمية، ليس بمنأى عن هذا التهديد الإرهابي. لحظات الرعب والخوف والفوضى التي بثتها هذه الانفجارات الهمجية منظر ليس مألوفاً في هذه المدينة الجميلة الوادعة.
إن الإرهاب الذي تتعرض له أوروبا حالياً، والتحاق المئات إن لم يكن آلاف الأوروبيين المسلمين بتنظيم "داعش" للحرب في سورية والعراق، يستدعي التوقف عنده؛ فكيف استطاع هذا التنظيم القابع في الصحراء السورية أن ينفذ لعقول وقلوب أبناء الجيل الثاني من الجاليات الإسلامية التي تعيش في أوروبا؟
أوروبا تعاني اليوم من أزمة اندماج حقيقية وكبيرة، إذ يعيش الشباب المسلم حالة من الاغتراب، سواء كان ذلك لضعف الاندماج الثقافي أو بسبب سوء الأحوال المعيشية أو غيرها من الأسباب.
كل المهاجرين في العالم يتعرضون لأزمة الهوية والاندماج في البلدان التي ينتقلون إليها. لكن أزمة الهوية والاندماج لدى جيل الشباب المسلم في أوروبا هي أزمة من نوع مختلف؛ لأنها أزمة حضارية مُركبة تدخل فيها الثقافة والدين وإرث علاقة الاستعمار التاريخي، وهيمنة الدول الغربية عموماً وأوروبا خصوصاً على العالم العربي والإسلامي التي تنطوي على صراع هوياتي تاريخي. هذا الصراع الذي كان يأخذ البُعد القومي في مرحلة التحرر من الاستعمار وما بعد الاستقلال، دخل إليه العنصر الديني في العقود الأخيرة الماضية، وذلك بسبب صعود حركات الإسلام السياسي، وبروز الهوية الدينية على حساب الهوية القومية في هذا الصراع.
الإنجاز الغربي المتمثل في التقدم العلمي والتكنولوجي الذي هو مثار إعجاب العرب والمسلمين، يقابله فشل في التنمية والإنجاز لدى العرب والمسلمين حالياً الذين كانت عواصمهم في يوم من الأيام منارات العلم والفلسفة والأدب والتقدم عندما كانت أوروبا تغط في سبات عميق.
الشباب الذين التحقوا بـ"داعش" من أوروبا، أو الذين شاركوا بالتفجيرات داخلها، جزء منهم على قدر كبير من التعليم والإنجاز الشخصي، فبعض الذين التحقوا بـ"داعش" هم أبناء الطبقة الوسطى في أوروبا وليسوا من المهمشين.
لقد استغلت التنظيمات المتطرفة حالة الاغتراب الحضارية هذه، ونشطت دعوةً وتحريضاً لهؤلاء الشباب ضد المجتمعات التي يعيشون فيها، التي تعلموا ودرسوا وعملوا بها. ولا بد من الإشارة أيضاً إلى أن بعض هذه الحركات قد تلقت دعماً من بعض الدول الأوروبية بسياسة قصيرة النظر لتحقيق مصالح أمنية محددة في الدول العربية والإسلامية، واستضافت في عواصمها أكثر الإسلاميين تشدداً الذين كانوا يغذون هذا الاغتراب الحضاري لدى الشباب بالتحريض على المجتمع "الكافر" وقيمه، ما أدى إلى زيادة نقمة هؤلاء الشباب على المجتمعات التي يعيشون فيها.
هجمات بروكسل الهمجية وغيرها في دول أوروبية لها جذور معقدة بعضها تاريخي، وبعضها منبثق من هذه المجتمعات نفسها، وبعضها مرتبط بالتحولات التي تشهدها المنطقة. ولن يكون حل هذه المشكلة سهلاً، ولن يكون الحل أمنياً فقط، ولا بد من أن يوجه الغرب عموماً للمساهمة في إيجاد الحلول لمشكلات المنطقة الاقتصادية والسياسية وتحصين مجتمعاتها.
(الغد 2016-03-24)