أسعار نفط مرتفعة ودور جديد لموسكو
خلال العامين الماضيين، هبطت أسعار النفط بصورة حادة من 115 دولارا للبرميل في منتصف العام 2014 إلى 27 دولارا مطلع العام الجديد، لكن الاتفاق بين المملكة العربية السعودية وروسيا في نهاية شهر فبراير الماضي على تجميد الإنتاج انعكس مباشرة، وبصورة إيجابية، على الأسعار المتداعية التي شهدت ارتفاعا بمعدل عشرة بالمئة.
يطرح ذلك تساؤلات حول الدور الذي لعبه هبوط أسعار النفط، ومن ثم الاتفاق على دعمها وتعافيها، في موقف روسيا الجديد في المنطقة. وليس المقصود فقط موقفها في سوريا، حيث تدفع بقوة نحو مسار سياسي بعيدا عن الخيار الإيراني – الأسدي العدمي، بل أيضا تقاربها مع دول المنطقة، وخصوصا مع السعودية، ومحاولة نقل نفسها من موقع العداء لمعظم الدول العربية بسبب اصطفافها مع إيران والأسد، إلى موقع الدولة الراعية للحلول الشاملة.
جاء انخفاض أسعار النفط في وقت حساس للغاية وغير مناسب لموسكو التي كانت تخوض معركة أوكرانيا مع الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي. المعركة التي شملت فرض عقوبات غربية قاسية جدا تسببت في خسائر كبيرة للاقتصاد الروسي تقارب 40 مليار دولار سنويا، لكن الخسائر الأعظم نتجت عن هبوط أسعار النفط وتقدر بنحو 100 مليار دولار سنويا. وهي خسائر هائلة لا يمكن إلا أن تقيّد روسيا بصورة كبيرة على الصعيدين الداخلي والخارجي. وقد بدا ذلك واضحا من خلال انكماش الاقتصاد الروسي بمعدل 4 في المئة، وتقليص الإنفاق الحكومي في العام 2016 بمعدل 20 في المئة عن العام 2014، وقد شمل ذلك راتب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المقدر بنحو مئة ألف دولار. الضغوط الداخلية بدت متصاعدة، إذ ارتفع معدل التضخم في العام الماضي بمعدل 12.5 في المئة، وانحدرت القدرة الشرائية للملايين من الروس فارتفع عدد الفقراء من 16 مليونا في العام 2014، إلى أكثر من 20 مليونا مطلع هذا العام 2016.
فتحت تلك التداعيات الاقتصادية والاجتماعية الخطيرة، بالإضافة إلى تواصل هبوط سعر النفط، الباب أمام مناقشات معمقة بين روسيا والسعودية انتهت بانفتاح واسع بين الجانبين على أصعدة كثيرة في منتصف العام الماضي. وأشارت صحيفة نيويورك تايمز حينها إلى وجود صفقة روسية – سعودية تدعم بموجبها الأخيرة سياسة رفع سعر برميل النفط مقابل إيقاف روسيا دعمها للأسد، ولكن سرعان ما نفت موسكو تلك الأنباء. قد لا تكون هنالك صفقات مباشرة عرضتها السعودية على روسيا، غير أنه من المرجح أن السياسة التي قادتها الرياض، والتي هبطت بأسعار النفط، ساعدت في دفع موسكو إلى اتخاذ مواقف أكثر عقلانية بما يخص سوريا. انتهت الشائعات حول الصفقة السعودية – الروسية بتدخل عسكري روسي في سوريا بدا وكأنه لحماية الأسد. لكن، وبعد نحو شهر واحد فقط على التدخل الروسي، بدأ مسار دبلوماسي لحل الصراع السوري هو الأكثر جدية، وقد اتخذت روسيا فيه موقفاً براغماتيا ومساوما شديد الوضوح.
تصور وسائل الإعلام الغربية التطورات كما لو أن روسيا قد نجحت أخيرا في إملاء شروطها على بقية الأطراف (الغرب والدول العربية) التي تنازلت أو بالأحرى خسرت المعركة، ولكن ذلك غير صحيح تماماً. لقد تم التنازل عن شرط رحيل الأسد قبل بدء العملية السياسية، ولكن في مقابل الإبقاء على الهدف الأهم وهو تغيير النظام وحدوث الانتقال السياسي. لقد كان ذلك هو هدف المجتمع الدولي والمعارضة السورية والقوى الإقليمية ومنها السعودية منذ العام 2011 حين اندلعت الثورة، إذ نصت المبادرة العربية الأولى على تشكيل “حكومة وحدة وطنية” ولم تكن تدعو لاستبعاد الأسد. حينها، رفض النظام السوري وخلفه كل من إيران وروسيا، بحث قضية الانتقال السياسي.
لكن أمورا كثيرة قد تغيرت اليوم ودفعت بروسيا إلى الالتزام بصورة عملية بما كانت قد وافقت عليه نظريا منذ العام 2012 وهو الانتقال السياسي. ومن ضمن تلك الأمور الضائقة الاقتصادية الشديدة التي تعاني منها موسكو والتي تهدد استقرارها الداخلي من جهة، وتقيد مشاريعها التوسعية الخارجية من جهة أخرى والتي لا تقتصر على سوريا.
يبقى أن نشير إلى ملاحظتين اثنتين ليست أسعار النفط المنخفضة وما تلاها من أزمة اقتصادية حادة هي السبب الوحيد الذي دفع بروسيا نحو المسار السياسي في الملف السوري، ونحو موقف أكثر عقلانية في الملف العربي، وربما لا تكون السبب الأهم، ولكنها لعبت دوراً هاما بكل تأكيد. وثانيا، من المهم التذكير بأن أسعار النفط قد تشهد ارتفاعات متواصلة في الفترة القادمة في ظل كبح الإنتاج النفطي، لكن تعافيها تماما وعودتها إلى المستويات التي كانت عليها في العام 2014 تبقى مستبعدة. ذلك أن دورات الصعود والهبوط في أسعار النفط تبدو مألوفة وحتمية ضمن دورات الانتعاش والركود للاقتصاد العالمي والتي تتراوح مدتها بين 5 و10 سنوات.
(المصدر: العرب 2016-04-02)