دروس من "بنما"
قرأت عن نفوذ رجال الأعمال وسمعت الكثير، لكن ان يذهب " رجل أعمال أردني" إلى أن جهاز السي اي اي في جيبه اليمين و" البنتاغون " في جيبه الشمال ، فهذا ما يحتاج إلى وقفة طويلة للتأمل والبحث في طبيعة ومجريات العلاقات التي تنشأ في اوقات الحرب والفوضى!
ضمن تحقيقات الأمم المتحدة حول اتفاق النفط مقابل الغذاء والشبهات التي جرت في هذا الاتفاق ورد هذا القول على لسان مسؤول عراقي نقلا عن رجل الأعمال خالد شاهين الذي كشفت ذات التحقيقات انه قام باستيراد النفط في شهر شباط (فبراير) من العام 2003 بكميات تجاوزت 7.7 مليون برميل بعد تفويض الحكومة الأردنية- لشركة ميلينيوم التي يملكها شاهين - بكتاب موقع من وزير الطاقة حينها وهناك نسخة من هذه المراسلات إلى رئيس الوزراء في تلك الحقبة.
في موازاة ذلك ، بذل الزميل الصحفي مصعب الشوابكة جهدا استثنائيا على مدار الأشهر الستة الماضية لتتبع آلاف الوثائق المسربة من بنما، ووجدوا ان شاهين دخل في شراكة مع متنفذين أردنيين واجانب في شركات سرية وان لدى الرجل 26 شركة " اوف شور " مسجلة في بنما وجزر العذراء البريطانية بغية التهرب الضريبي والتمويه ، رغم ان شاهين سعى للحصول على عطاءات عديدة لم يكن اولها استيراد النفط من العراق ابان الحرب ، وما تبع ذلك من عطاءات لتدريب الشرطة العراقية في 2004 ، وبعد ذلك بسنوات عقد توسعة مصفاة البترول الأردنية ثم محاولاته للدخول في عطاء جر مياه الديسي ، علاوة على تسجيله شركات في العقارات ومحاولاته للحصول على امتيازات من الحكومات.
حوكم وسجن وخرج من السجن بدعوى العلاج ثم اعيد اليه وهو الآن خارج القضبان الا أن الشاهد في كل ذلك أن أموال الرجل ليست في الأردن ، وهنا يأتي الدرس الأول من أن تسجيل شركات " الاوف شور " ينطوي على مخاطرة بالنسبة للدول التي تعتمد عطاءات لمستثمرين يسجلون شركاتهم في " الملاذات الآمنة " بعيدا عن عيون الضريبة أو الشفافية في ايضاح ماهية هذه الشركات.
والعبرة تكمن اليوم ايضا في ضرورة ان يقر البرلمان تشريعا للعطاءات الموحدة وفقا لمسطرة شروط قانونية ومالية واضحة لا مكان فيها لشبكة العلاقات والنفوذ والتلزيم، ففي العقد المنصرم كان المشهد الاقتصادي مسرحا مفتوحا لمثل هذه العطاءات، وهو ما جعل البنك الدولي يطالب الحكومات الأردنية بضرورة انجاز قانون للعطاءات، والا فان اخطاء العقد الماضي ستتكرر بتفاصيل اخرى لكنها تصب في نهاية الامر في غير مصلحة الاقتصاد الوطني الذي يعاني ما يعانيه من أزمات راهنة.
درس آخر على قدر كبير من الاهمية يجب ان نتعلم منه الكثير، ومضمونه ان التماهي بين رجل السياسة ورجل الأعمال على هذا النحو ليس الا شكلا من اشكال الفساد التي تضرب الاقتصاد وتجعل من السرية والعمل في الخفاء طريقا إلى الفشل، بدل أن تكون النزاهة والوضوح ملامح اساسية وشروطا مسبقة لتقييد كل منهما ضد الانخراط في مثل هذه العلاقات المشبوهة ، وهو ما يضر حتما بلادا يزحف اقتصادها من اجل تحسين شروط عيش الإنسان منذ وقت بعيد.
(المصدر: الغد 2016-04-09)