التغيير المستحيل في مجتمعٍ عُصْبوي
بين تطلعات قوى «الربيع العربي» إلى التغيير، وتحقيق الحرية والديمقراطية والعدالة وبناء الدولة المدنية الحديثة، و(بين) الاجتماع السياسي والأهلي الذي تجري في نطاقه وقائع ذلك «التغيير» قدرٌ هائلٌ من عدم التناسُب، حتى لا نقول من التجافـي. يتعلق الأمر، هنا، بالحديث في آثار عاملٍ من العوامل الموضوعية الكابحة لسيرورة ذلك «التغيير»، و«المشروع السياسي» الذي أفصحت عنه - لفظيًا على الأقل - قوى «الربيع العربي». وليس العامل هذا سوى ما تعوَّدنا على تسميته- في كتاباتنا- بالبنية الاجتماعية العصبوية، أو القائمة على علاقاتِ العصبية الانقسامية، بما هي بنية رخوة وهشة، وتجذِّف انقساماتُها ضدّ تيار التوحيد والاندماج في المجتمع؛ هذا الذي هو شرط لازبٌ لأي حركةِ تغييرٍ مدنية من جنس تلك التي تطلعت قوى «الربيع» ذاك إلى أن تَكُونَها.
ها هنا أيضاً، لا ينبغي التعميم؛ ثمة فارق بين بلدٍ وآخر في مستويات الاندماج الاجتماعي المتحققة، لوجود الفارق بين البلاد العربية في مستوى التطور الاجتماعي والسياسي. وينبغي لأيّ تحليلٍ أن يلْحظ ذلك الفارق لئلاّ يستنتج على الفروض أو النماذج بدلاً من الواقعات. والحقّ أن معطيات الاندماج الاجتماعي: سلبًا أو إيجابًا، خصَاصًا أو وفرةً، هي ثمْرات فِعْلِ ثلاثة عوامل بينها روابط قابلة للملاحظة، هي عامل المواريث التاريخية، والعامل الكولونيالي، وعامل البناء الوطني الداخلي:
في ما خصَّ العامل الأوّل، سيكون من باب التأريخ الإيديولوجي أن يُقرأ التاريخ العربي، منذ الإسلام إلى الحقبة الاستعمارية، بوصفه تاريخ منطقة موحَّدة سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا؛ أي منطقة قامت فيها دولة مركزية، وتبلورت فيها أمّة موحَّدة ومتماسكة، وانصهرت فيها الجماعات الأهلية الفرعية المتكوّنة، أساسًا، على روابط القرابة والدّم، أو على الاعتصاب لفكرةٍ مذهبية...إلخ. مثل هذا التاريخ تاريخٌ متخيَّل لا صلة له بالتاريخ الفعلي. ومعنى ذلك أن تاريخنا زخر بعوامل الانقسام الاجتماعي العامودي لأسباب عدّة ليس هنا مجال التفصيل في الحديث فيها، لكن في جملتها أن ذلك الانقسام الاجتماعي تغذّى من الانقسام السياسي، كما من هشاشة الدول التي قامت في تاريخ الإسلام، بما في ذلك الدول الإمبراطورية الكبرى، وآخرها العثمانية؛ التي لم تنجح آليات التوحيد (القسري) فيها في إخماد مفاعيل آليات الانقسام والاعتصاب الفرعي. وعليه، يمتنع فهم عوامل الانقسام هذه من دون العودة بها إلى جذورها التاريخية العميقة، والمقيمة في قلب الاجتماع العربي الإسلامي الكلاسيكي. إنها، بمعنًى دقيق، من المواريث التاريخية النافذة، أو ذات النفوذ والنفاذ، في الاجتماع السياسي العربي الحديث والمعاصر.
على أن تأثيرات هذا العامل زادت وتيرةً، وتعاظمت مفاعيل، في امتداد عاملٍ ثان هو العامل الكولونيالي. لم ينجح الحكم الاستعماري المباشر، للأعمّ الأغلب من البلاد العربية، في إنجاز توحيدٍ وإدماج اجتماعيَّين مثيل ذينك التوحيد والإدماج اللذين نجحت دول الاستعمار في إنجازِهما في أوطانها. وَحَّد الاستعمار الإدارة الترابية، والاقتصاد، من طريق الرَّسملة، لكنه أبْقَى على البنى الاجتماعية التقليدية من عصبيات، ومكَّنها من بعض مقوّمات وجودها واستمرارها الماديين، وأحيانًا-ولحاجته إلى التحالفات-ظَاهَر بعضَها على حساب آخر، بل هو، في الغالب، مَن أعاد إنتاج تلك البنى بالتشريعات التي سنَّها، والإجراءات التي اتخذها. وهكذا خرج الاحتلال بمثل ما دخل: وَحَّد من فوق، وقسَّم من تحت: ضمن استراتيجية للتقسيم أشمل مسَّت المنطقة إجمالاً (سايكس-بيكو ونظيراتها)، وأقطارها كلاًّ على حدة.
أمّا العامل الثالث فيتعلق بسياسات «الدولة الوطنية» العربية المستقلة نفسها. ورثت هذه الأخيرة الدولةَ الكولونيالية والدولةَ السلطانية معاً، وتشكلت ملامحُها في شكلِ مزيجٍ منهما: من التحديث والتقليد؛ التحديث الذي مسَّ الاقتصاد ولامسَ الإدارة، والتقليد الذي رزَحَ ثقْلُه على بُنى الاجتماع والوعي ! تَعَاقب على حكم «الدولة الوطنية» طيفٌ من النخب السياسية متمايزة المنابت: وطنية، ليبرالية، قومية...الخ، لكنّ أيًّا من تلك النخب- ما خلا في مصر- لم يَكن يملك مشروعاً للاندماج الاجتماعي، بل كثيراً ما وقع استخدام البنية العصبوية سياسياً، في لعبة التحالف القبلية والعشائرية والمناطقية والطائفية لتعزيز السلطة. والنتيجة أنّ أيًّا من هؤلاء-حتى مَن كان يتطلع إلى بناء دولةٍ قوية متماسكة-لم يقدِّر، على نحوٍ صحيح - مخاطر ترْك البنى الاجتماعية انقسامية وعصبوية، و لم يُدرك حقيقةَ استحالةِ بناء دولة وطنية مستقرة مع وجوب أسباب هُلْكِها في ذلك القاع الاجتماعي العصبوي! إن العصبوية تهزِم الدولةَ، حكمًا، بمثل ما تهزِم الحداثةَ والديمقراطية والعدالة والاستقرار السياسي ؛ فهي النقيض من هذه جميعِها؛ ومَن يستخدمها اليوم ترتدّ عليه غداً.
اصطدم «الربيع العربي»، كما اصطدمت كلّ ثورة، بهذه البنية العصبوية الانقسامية، فدخل في لجّة تناقضاتها التي لا تنتهي. ليس صدفةً أنه حقَّق نجاحاتٍ نسبيةً في تونس ومصر من دون سواهما من بلدان «الثورات العربية»؛ لأن البلديْن هذيْن أكثرَ البلاد العربية، جميعًا، تمتُّعًا بقدرٍ من الاندماج الاجتماعي غيرِ قليل، وخُلُوا من أسباب الانقسام على حدود القبائل والعشائر والمناطق والطوائف.
حصل، كذلك، أن ذلك التوسُّل الأخرق للمفردات العصبوية في التعبئة والتحشيد للجموع، لم ينته إلى تطبيق الحَرَاك أو مَذْهبته و-بالتالي- إلى إفقاره من مضمونه الوطني والديمقراطي المدني فحسب، بل غالبًا ما أدّى إلى إخماده ومَحْوه كَحَراك، وإلى أخْذ الصراع السياسي إلى مواجهات مفتوحة، بالسلاح، بين جماعات مسلّحة وجيوش أو بقايا جيوش. هكذا، وبعد نزاع سياسي بين معارضةٍ وسلطة، نزلت فيه قطاعاتٌ عريضة من الشعب - من منابتَ اجتماعية مختلفة-إلى الشارع مطالِبة بحقوق مشروعة، لم يعد في صورة المواجهات غير جماعات أهلية مغلقة، ترفع في وجه بعضها السلاح على حاملٍ عصبوي! وبدلاً من الحديث عن حقوق العمّال، أو الطبقة الوسطى، أو الأرياف المهملة، أو الطلاب في الجامعات، أو العاطلين وحملة الشهادات في العمل، أو حقوق المرأة، أو حقوق الشعب في دستورٍ متوافَق عليه، وفي حريات عامّة محاطَة بالضمانات، وفي قضاءٍ نزيهٍ ومستقل، بات الحديث في «حقوق» هذه أو تلك من الطوائف والمذاهب والقبائل والإثنيات في السلطة، فتبخَّرتِ «الثورة»، وانتهت الديمقراطية المُبتغاة إلى نقيضها!
(الخليج 2016-04-11)