اعترافات حول الفساد
قامت الدنيا ولم تقعد على النواب الذين حاولوا تعيين أبنائهم وأقاربهم، في وظائف، في مجلس النواب، واذ تتأمل الغضب، تتفهم دوافعه، لكنك تتذكر ان هذه ليست اولى التعيينات، ولا آخرها. عبر عشرات السنين، كان كل مسؤول، من درجات مختلفة، يقوم بتعيين محاسبيه وأصدقائه وأقاربه في مواقع ووظائف كثيرة، فالامر ليس جديدا، فنحن في بلد يفتقد للعدالة منذ زمن بعيد، وكلنا يعرف ان هذا المصنع او تلك الشركة، او هذه المؤسسة، او تلك الوزارة، في تواقيت مختلفة، شهدت تعيينات مثل الوباء، فهذه تعيينات فلان، وحصته، وتلك تعيينات فلان وحصته. لاجديد اذا، سوى انكارنا لغياب العدالة، وغضبنا يأتي مضاعفا، حين لانستفيد على المستوى الشخصي، شيئا، من هذه التعيينات او تلك، ومامن واحد فينا، الا وبحث عن «واسطة» في توقيت ما، لعلها تساعده في اقتحام مؤسسة، او اختطاف وظيفة من يد صاحبها. اغلبنا يندد بالنواب، ونحن الذين اوصلناهم المجلس ، وبعضنا يقف صباحا عند باب بيت النائب، عند آذان الفجر، حتى يطل عليه النائب، ويتوسط له هنا او هناك، بل ان النائب الذي لايتوسط ولايعين ابناء قاعدته الانتخابية يتم شتمه ولعنه اناء الليل واطراف النهار. اذا كانت الممارسات الصغيرة فاسدة على المستوى الشعبي، فمن الطبيعي ان نرى فسادا ايضا بين الكبار، فالكل يفسد، وفقا لقدرته، او تبريراته التي يشرعن بها افعاله. حتى اولئك الذين يبحثون عن «واسطات» ويحصلون على مكتسبات صغيرة او كبيرة ليست لهم، يخلقون فقها اجتماعيا لتبرير سلوكهم، فيقولون ان البلد لاعدالة فيها، وانه بدون واسطة لن يعملوا ابدا، وانهم يضطرون لهكذا سلوك، والنتيجة تفشي الفساد الصغير ملتقيا مع الفساد الكبير، في بئر واحدة، والكل يبيعك تنظيرا وطنيا، وعليك ان تصدقه. دلوني على نسبة الذين تم تعيينهم على اساس الكفاءة في آخر عشرين عاما، في القطاع العام، والنسبة في القطاع الخاص ايضا، والفروقات بين النسبتين، ومنسوب التدخلات الهاتفية والواسطات في الحالتين، من اجل وظيفة تطفئ نار الجوع والفقر والبطالة. ربما اغلبنا يحتج لان التعيينات تؤشر على عدم العدالة، لكن السؤال مطروح حول نسبة الذين كانوا سوف يحتجون فعليا، لو كانت اسماؤهم في كشوف التعيينات،وهي تعيينات مرفوضة بطبيعة الحال، ولانبررها، لكنها ليست الا خصلة شعر صغيرة، في راس المشكلة الاكبر. هذا ليس تشريعا للفساد، ولا تحليلا له، لكنه تساؤل عميق حول البنية العامة لحياتنا، اذ رأينا قبل تعيينات النواب، الاف التعيينات وعلى مدى سنين تجري بذات الطريقة، وراينا ايضا، ان الكفاءة ليست معيارا دائما، واننا نندد بالفساد اذا مارسه غيرنا، ونقبله اذا عاد علينا بمنفعة شخصية. علينا ان نعترف بكل صراحة، ان المشكلة الاساس، ليست التعيينات الاخيرة، على مافيها، من تجاوزات او توظيف مذموم للموقع والسلطة، فالمشكلة الاساس، هي غياب العدالة، وتفشي الواسطة والمحسوبية، مما حول كل المجتمع، الى مجتمع يؤمن بهذه الطريق فقط، للحصول على غاياته. اذا كنا في زاوية الذي يقر بالاخطاء، فلنجري استطلاعا سريا، ولنختر عينة عشوائية، لالاف الموظفين في القطاعين العام والخاص، ولنسأل كل واحد سؤالا صغيرا يقول: من عينك..قبل ان نسأل عن خبرته وكفاءته وحظه المميز في الحصول على الوظيفة؟!. اذا كنا معنيين حقا، بوقف هكذا ممارسات، فأن بوابة ذلك تعريف المشكلة، كما هي، ووضع النقاط على الحروف، بدلا من الامساك بالتفاصيل والقضايا الثانوية، وعلى هذا يصير السؤال اعمق، حول بقية التعيينات في كل بنية الدولة، وتعيينات الدرجات العليا، وكل الوظائف، بما في ذلك اختيار المدراء والسفراء والوزراء، وصولا الى مايفعله القطاع الخاص، من آفات اختيار ذوي القربى، لغايات سياسية او انتخابية او تمييزية. الفساد بات وباء عاما، اغلبنا مصاب به، بمعرفته او بجهله، من الذي يبحث عن واسطة لتمديد الكهرباء او الماء بسرعة ودون تأخير، وصولا الى الذي يضغط لاختطاف موقع مهم جدا، مرورا بالباحثين عن وظيفة تقيهم شر الموت جوعا، فالفساد لايتجزأ.
(الدستور 2016-04-15)