النظام السوري ونهاية المتاجرة بالجولان
لم يكن الجولان يوما هما لدى النظام السوري. كان همه الوحيد البقاء في السلطة والمزايدة على العرب الآخرين وابتزازهم، وصولا إلى تمكين الأب من توريث البلد لابنه في السنة 2000.
لا تفوت بنيامين نتانياهو، الذي سيزور موسكو قريبا، مناسبة لتأكيد رؤيته للحدود التي يريدها لإسرائيل. تشمل هذه الحدود قسما من الضفّة الغربية، بما في ذلك القدس، ومرتفعات الجولان. لم يعد مشروع نتانياهو، ولم يكن يوما سرّا. الجديد أن كلّ ما يفعله الآن، في ضوء التطورات التي تشهدها سوريا، يأتي بتنسيق مع روسيا الموجودة عسكريا على الأرض السورية.
لم يرد “بيبي”، كما يسمّيه الإسرائيليون، في أيّ يوم مفاوضات جدّية مع الجانب الفلسطيني. كان همّه، ولا يزال، منصبّا على توسيع المستوطنات في الضفة الغربية من أجل خلق واقع جديد على الأرض من جهة، وتطويق القدس من كل جانب من جهة أخرى.
قضى نتانياهو على خيار الدولتين، الذي نادى به المجتمع الدولي، بما في ذلك الولايات المتّحدة، منذ زمن. اعترض دائما على كلّ ما من شأنه التمهيد لتسوية معقولة ومقبولة تؤمّن الحد الأدنى من الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. الأكيد أن قوى فلسطينية مدعومة من الخارج مارست لعبة التطرّف والعمليات الانتحارية في مرحلة معيّنة من أجل وصول نتانياهو إلى السلطة في 1996 خلفا لإسحق رابين. مارست هذه القوى اللعبة المفضلة لليمين الإسرائيلي، وهي لعبة تقوم على مقولة إن “لا شريك فلسطينيا يمكن التفاوض معه”.
انتهز “بيبي” مرور ما يزيد على خمس سنوات على الحرب الدائرة في سوريا، وهي حرب يخوضها نظام أقلّوي في مواجهة مع شعبه، من أجل عقد جلسة لمجلس الوزراء في إحدى المستوطنات المقامة في الجولان المحتل منذ نصف قرن إلا سنة واحدة. نعم منذ نصف قرن عندما كان حافظ الأسد وزيرا للدفاع وقبل وصوله إلى الاستفراد بالسلطة في العام 1970.
أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي من الجولان أنه سيبقى إسرائيليا “إلى الأبد”.
بقي الجولان تحت سيادة الدولة السورية المستقلّة أقلّ من ربع قرن، وهو تحت الاحتلال الإسرائيلي منذ نصف قرن. لماذا لم يفعل النظام السوري شيئا من أجل استعادة أرضه المحتلة طوال كلّ هذه المدّة. حسنا، كانت هناك حرب تشرين/ أكتوبر في العام 1973. اعتبرها النظام السوري انتصارا عسكريا، في حين وصلت القوات الإسرائيلية نتيجة تلك الحرب إلى أبواب دمشق.
كان أمام النظام السوري منذ انتهاء تلك الحرب، التي استثمرها سياسيا إلى أبعد حدود، خياران؛ إمّا استعادة الأرض بالقوة، وإما الدخول في مفاوضات كي يعود الجولان إلى أهله. فضل النظام السوري حال اللاحرب واللاسلم. كان النظام السوري، في كلّ وقت، عاجزا عن الحرب وعاجزا عن السلم. فضّل المتاجرة بالجولان على أيّ شيء آخر. فضّل في الوقت ذاته اعتبار الانتصار على لبنان بديلا من الانتصار على إسرائيل. لذلك كان هناك دائما اتفاق ضمني بين النظـام وإسرائيل على إبقاء جبهة جنوب لبنان جرحا مفتوحا يستفيد منه الجانبان، في حين لم يعد عصفور يمرّ في سماء الجولان منذ توقيع اتفاق فكّ الاشتباك السوري- الإسرائيلي في العام 1974 برعاية “العزيز” هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي وقتذاك.
رفض النظام السوري في كلّ وقت الدخول في مفاوضات جدّية من أجل استعادة الجولان. وهذا ما كان يناسب إسرائيل التي لم تعترض، يوما، في العمق على السياسة التي يتبعها هذا النظام. ففي مؤتمر مدريد للسلام الذي انعقد في أواخر تشـرين الأوّل/ أكتوبر 1991، بعد ثمانية أشهر من انتهاء الاحتلال العراقي للكويت، كانت هناك محاولة جدية برعاية الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي والاتحاد الأوروبي من أجل التوصل إلى تسوية شاملة.
كان الموقف السوري في ذلك المؤتمر من النوع المضحك- المبكي، إذ أقدم فاروق الشرع، وزير الخارجية السوري وقتذاك، على عمل ذي طابع مسرحي يستهدف إظهار إسحق شامير، رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي كان يرأس وفد بلاده بأنّه ذو تاريخ إرهابي. هل تاريخ شامير الذي كان عضوا في عصابة “إيرغون” سر عسكري لا يعرف عنه أحد شيئا باستثناء فاروق الشرع… أم أن همّ وزير الخارجية السوري كان محصورا في ذلك اليوم في الاستحواذ على رضا حافظ الأسد من جهة، وتوجيه رسالة إلى إسرائيل من جهة أخرى؟
فحوى تلك الرسالة الموجّهة من وزير خارجية النظام إلى كلّ من يعنيه الأمر أن سوريا غير مهتمّة باستعادة الجولان، وأن الأولوية هي للمتاجرة بالهضبة المحتلة التي كانت حكومة مناحيم بيغن أعلنت في الثمانينات ضمها، رسميا، بعد موافقة الكنيست على ذلك.
تبيّن في المدى الطويل، أي بعد نصف قرن من احتلال الجولان، أن سوريا والشعب السوري يدفعان ثمنا غاليا لنظام حكمهم بالحديد والنار كان يختلق الحجج من أجل بقاء الاحتلال.
كانت إحدى الحجج التافهة تلك التي استخدمها الأسد الأب في لقائه الأخير مع الرئيس بيل كلينتون في نيسان/ أبريل من السنة 2000، أي قبل شهرين من وفاة الأسد. تمسّك الأسد الأب في الاجتماع الذي انعقد في جنيف بانسحاب إسرائيلي إلى خط معيّن على ضفة بحيرة طبريا، بحجة أنه كان يصطاد السمك هناك، وأنّه لا يستطيع التخلي عن شبر من الأرض. راح عن باله أن مستوى المياه في البحيرة تقلص منذ ما قبل العام 1967.
في كل الأحوال، لم تكن إسرائيل ضدّ هذا الطرح، وهي التي كانت دائما ضدّ إعادة الجولان، حتّى لو كان ذلك في ظلّ اتفاقات معيّنة. كانت تعرف أن النظام السوري سيجد مبررا لرفض كلّ عرض يعيد لسوريا أرضها المحتلّة.
لم يكن الجولان يوما همّا لدى النظام السوري. كان همّه الوحيد البقاء في السلطة والمزايدة على العرب الآخرين وابتزازهم، وصولا إلى تمكين الأب من توريث البلد لابنه في السنة 2000.
من الطبيعي أن تقبض إسرائيل حاليا ثمن استثمارها طويل المدى في نظام لم يتردّد لحظة في خدمتها. خرّب هذا النظام سوريا ولبنان. كذلك، أخذ الفلسطينيين من كارثة إلى أخرى بدليل توريطهم في حرب لبنان بين 1975 و1982. منعهم طوال تلك المرحلة من الإقدام على أيّ خطوة يمكن أن تساعدهم في بلوغ حلم الدولة المستقلّة. جعلهم أسرى شوارع بيروت وأزقتها وأداة في إبقـاء الجنـوب اللبنـاني جـرحا نازفا، بدل استغـلال الفـرص المتـاحة. ليـس صحيحا أنه لم تتوفّر فرص أمام الفلسطينيين في مرحلة ما بعد حرب 1973 وفي عهد جيمي كارتر وبعد التوصل إلى اتفاقي كامب ديفيد في العام 1978. أحد الاتفـاقين كان خاصا بالفلسطينيين في مرحلة كان عدد المستوطنات في الضفّة الغربية ما زال محدودا. هل من يريد أن يتذكر ذلك؟
على الصعيد الإسرائيلي، يمكن القول إن النظام السوري أدّى كلّ المطلوب منه، خصوصا عندما لعب دورا أساسيا في تمكين إيران من تعميق الشرخ المذهبي في المنطقة. لذلك، يأتي اجتماع مجلس الوزراء الإسرائيلي في الجولان وما تلاه من كلام لبنيامين نتانياهو تطورا أكثر من طبيعي وفي السياق المنطقي لتطور العلاقة بين النظام وإسرائيل، مع ما يعني ذلك من استمرار للاحتلال.
كان هذا الاحتلال في كلّ يوم وطوال أقلّ بقليل من نصف قرن خير معين لنظام أخذ على عاتقه تحويل السوريين عبيدا لديه، وسوريا مجرّد مزرعة لدى العائلة الحاكمة.
(العرب اللندنية 2016-04-20)