نحن نكذب على أنفسنا أكثر مما نتصور
يقول نيتشة: "الكذبة الأكثر انتشاراً هي كذب الشخص على نفسه"، نميلُ -معشر البشر- للكذبِ على أنفسنا، ومن ثمّ تصديق تلك الكذبات مع علمنا بها! يُساعدنا الكذب على أنفسنا على تعزيز الوهم لدينا، وتعزيز معتقداتنا بخصوص قدراتنا، وتعزيز آرائنا تجاه ما يحدث. يقولُ دان أريللي في كتابه "الحقيقة الصّادقة" بخصوص عدم الصّدق: "نحن -معشر البشر- لدينا القدرة على الكذب ليس على الآخرين، بل والكذب على أنفسنا. يُعدّ خداع النّفس استراتيجيّة مفيدة لتصديق القصص الّتي نقصّها للآخرين، وإذا كنّا نفعل ذلك بنجاح، فإنّنا أقلّ عرضة للخوف والتردّد، وأقلّ عرضة لأن يَكتشف الآخرون مصادفة أنّنا على عكس ما نتظاهر به".
لا يتوقف الأمر إزاء الكذب على أنفسنا بخصوص الآراء والمعتقدات والاقتناع بالقصص والرّوايات الّتي تُثبتُ وجهات نظرنا فحسب، وإنّما يتعدى الأمر ذلك إذا كذبنا على أنفسنا بخصوص العمل مثلًا. إذا قمنا بالغش في أثناء تنفيذ مهمّة ما، سنتجاهل ذلك، وسنصدق أنّنا كنا بارعين فعلاً، مع أنّنا كذبنا على أنفسنا عند تنفيذها، ونعلم أننا قمنا بالغش مثلاً، أو استعنّا بصديقٍ لإنجازها.
في دراسةٍ لعالم الاقتصاد السّلوكي دان أريللي، أجرى اختبار رياضيّات لمجموعة من المشاركين، وسمح لهم بالغش دون اكتشافهم. بالتّأكيد أظهرت النتائج غشّ المُشاركين؛ إذ تحسّنت نسبة درجاتهم تحسّناً ملحوظاً بعد إتاحة إمكانيّة اختلاس النّظر إلى الإجابة الصّحيحة. ليست القضيّة هنا، في نهايةِ التّجربة سُئل المشاركون إذا ما كانوا يعتقدون أنّ بإمكانهم الإجابة عن أسئلة أكثر في اختبار ثان، كانت النّتائج مُذهلة، فقد بالغَ المشاركون في قدراتهم وصدّقوها، ولجعل التّجربة جدّية عرض الباحثون مكافأة (20) دولاراً إذا ما كان توقّع المشاركين صحيحاً، ومع ذلك، فإنّهم بالغوا في توقّعاتهم لاقتناعهم أنّهم -فعلًا- جيّدون؛ مع تعرضهم لخطر خسارة المكافأة!
على صعيد مقابل، فإنّ منح شهادة إنجاز يزيد الطين بلّة، ففي تجربة أخرى، قُسِّم المُشاركون في نهاية التّجربة، بعد إتاحة الغش لهم، إلى مجموعتين: مُنحِت المجموعة الأولى شهادة تقدير تُشبه الشّهادات الرّسميّة، وسُجّلت أسماؤهم عليها، في حين لم تُمنح المجموعة الثّانية تلك الشّهادات. كما هو الحال سابقاً، وُجّه سؤال إلى المجموعتين حول إذا ما كانوا يعتقدون أن بإمكانهم الإجابة عن أسئلة أكثر في الاختبار التّالي.
هذه المرة زادت المبالغة بوجهٍ أكبر، وسجّلت المجموعة الّتي مُنحت الشّهادات مبالغة أكبر في توقّع حلّ الأسئلة، وصدّقوا أنفسهم بشدّة في أنّهم جيّدون. إنّ منحهم الشهادة جعلهم يصدّقون أنّهم جيّدون في الاختبار فعلاً، وصدّقوا أنفسهم أنّهم قد حلّوا الاختبار بجهودهم وذكائهم وليس بسبب اختلاسهم النّظر إلى الإجابات، وعليه فقد أجابوا بإمكانيّة حلّ أسئلة أكثر في الاختبار الثّاني بنسبة أكبر من هؤلاء من دون شهادات. إنّ هذه الشّهادة؛ مع علمهم أنّهم لا يستحقّونها، جعلتهم يُصدّقون أنّهم جيّدون في العمل فعلاً، بغض النّظر عن مدى إجادتهم له.
يحضرني هنا هؤلاء الّذين يشترون شهادات الدّكتوراه من الجامعات الوهميّة الّتي تتطلّب منك دفع مبلغ من المال، وتقديم سيرتك الذّاتية، وبحث شكلي للحصول على الشّهادة، وكيف يُقدّمون في المؤتمرات على أنّهم حاصلون على شهادة الدّكتوراه من الجامعة الأميركيّة الفلانيّة، الّتي إن عُدت إلى موقعها في الإنترنت ستجدها مجرّد جامعة لبيع الشّهادات لا أكثر. جلستُ ذات مرّة مع أحدهم، وكان في أثناء حديثه معتقداً أنّه نال شهادة الدّكتوراه فعلًا، حتّى إنّه ناقشني بأهميّة كتابة المقالات البحثيّة الأكاديميّة للحصول على الدّكتوراه، وطلب منّي أن أحدّثه عن البحث الّذي عملت عليه، وكان يهزّ برأسه موافقاً، ويذكر أنّه عمل على أبحاثٍ شبيهة. بعد اللّقاء ظننتهُ يتصنّع ذلك إلى أن قرأتُ الدّراسة المذكورة آنفاً الّتي تُفسّر ذلك.
بعد مُدّةٍ، أصبح رئيساً لأحد مراكز الأبحاث العربيّة!