حكومة تكنوقراطية!
الدعوة إلى حكومة تكنوقراطية في الأردن ليست أمراً جديداً. فمنذ أعوام ونحن نستمع إلى الصوت الذي يروّج لهذا النوع من الحكومات.
لكن التطورات السياسية الأخيرة، أصبحت مواتية أكثر لمثل هذا النوع من الحكومات، بعدما صرنا نقترب من رئيس حكومة معنية بالشؤون الاقتصادية وإدارة الحياة اليومية، يقود مجموعة من الفنيين في مجال تخصصهم.
الأمر لا يتوقف فقط على الجانب التشريعي، بل حتى على الصعيد الواقعي. إذ كرّس سلوك رئيس الوزراء د. عبدالله النسور، هذا المفهوم الجديد للموقع، فنأى بنفسه عن القضايا الخارجية والسياسات الداخلية.
تبدو معضلة هذا "الخطّ السياسي" أنّه يتناقض مع الأهداف المعلنة له. فإذا كان المقصود هو التمهيد والتحضير لحكومة نيابية تمثل الأغلبية النيابية، فإنّ مثل هذا النوع من الحكومات هو سياسي بامتياز، وليس تكنوقراطياً، لأنّه من المفترض أن يمثّل تياراً سياسياً نيابياً، وهذه هي الفلسفة الثاوية وراء النظام النيابي والحكومة النيابية في الأصل!
لذلك، لو فرضنا أنّ حكومة نيابية "حقيقية" ستنتج عن الانتخابات المقبلة، فليس من المتوقع أن تقبل باختزال دورها ضمن المربع الذي رسمه د. النسور لأي رئيس وزراء مقبل، أو ضمن مصطلح "التكنوقراط"، بل ربما تكون مزيجاً من السياسيين والتكنوقراط، لكن شخصية الرئيس تحديداً من المفترض أن تحمل طابعاً سياسياً.
لا يوجد معيار محدد أو ثابت لدور رئيس الوزراء الفعلي في صناعة السياسات وعلاقته بمؤسسات الدولة، فالمسألة ارتبطت خلال التجارب السابقة في تاريخ المملكة بأكثر من عامل؛ الأول، هو شخصية رئيس الوزراء نفسه. والثاني، طبيعة اللحظة التاريخية التي تمرّ فيها البلاد. وعلى الأغلب، كان معيار التوازن الواقعي في العلاقة بين أطراف المعادلة السياسية ومؤسسات الدولة المختلفة هو الذي يطغى في الأخير.
كان هناك رؤساء وزراء يصرّون على التمسّك بالولاية العامة بخشونة، وآخرون بنعومة. وهناك من يتنازل طوعياً عن جزء كبير من صلاحياته للأجهزة البيروقراطية المختلفة. وفي أحيان يحدث صراع بين أطراف مختلفة، ما أدى إلى عدم وضوح المعادلة السياسية بصورة حاسمة، وربما هذا السبب مع تجربة بعض رؤساء الوزراء وما حدث معهم مؤخراً هما السبب الجوهري في إجراء التعديلات الدستورية الأخيرة لفك الاشتباك في الصلاحيات والسلطات.
لكنّ المعطيات الواقعية -تجربة النسور، التي تضافرت مع التعديلات الدستورية- هي التي دفعت بمصطلح "الحكومة التكنوقراطية" إلى الواجهة من جديد، وإلى ترسيم دور محدود في المجال السياسي للحكومات المقبلة. وهو الخط الذي أظن أنّه بحاجة إلى دراسة معمّقة أكثر، دستورياً وسياسياً، لأنّه يتناقض مع طبيعة الحكومة النيابية نفسها، ومع بنية "النظام النيابي" بصورة عامة.
ولو عدنا إلى الظروف التاريخية والمتغيرات السياسية المحيطة، فمن المفيد جدّاً أن يكون هناك رئيس وزراء، وربما حكومة، مسيّسين في أحيانٍ كثيرة، يتحمّلان جزءاً كبيراً من العبء أو كلفة السياسات الداخلية والخارجية، ويساعدان في الرسالة السياسية والإعلامية للدولة.
بالإضافة إلى هذا وذاك، فإنّ الظروف التاريخية الانتقالية الإقليمية الراهنة، تتطلب حكومة سياسية من العيار الثقيل، وليس فقط إلى مجموعة من التكنوقراط والفنيين. فمثل هذه الحكومة هي التي تتحمل عاقبة الاجتهادات والقرارات الخاطئة، ويمكن أن ترحل بسهولة، لكن في حال غيابها، أو بعبارة أدقّ تخلي رئيس الوزراء عن العبء السياسي، فإنّ هناك حلقة مفقودة ستتولّد في تحديد المسؤوليات والمخارج المطلوبة من أي أزمة سياسية!
(الغد 2016-05-10)