المعرفة في أوانها.. على الأقل
معرفة المسائل قبل تشكلها، حكمة لا يستمع إليها أغلب الناس، إن لم يكن جميعهم. ذلك مصير الحكمة -كما تروي أوديسا- منذ وهب أبولو كساندرا الحكمة ومنع الناس من تصديقها. ومعرفتها في أوانها حكمة واقعية لا بأس بها، وإن كانت في الواقع جهلا (جهل بمعنى النقص وليس الذم). ومعرفتها بعد فوات الأوان حسرة وفشل، ولكنه فشل يتضمن قدرا من الوعي، وأفضل بكثير من عدم إدراكها حتى بعد وقوعها، فذلك مرض عقلي يسمى -للتخفيف من الكلمة- "انفصال عن الواقع"!
ونتعلم أشياء كثيرة كان يجب أن نتعلمها من قبل، فتزيدنا المعرفة حزنا وعذابا، لأننا نفوت فرصا كثيرة، ولا نملك أن نستدرك استدراكا مفيدا إلا في حالات قليلة.
يفترض أن التجربة مصدر من المعرفة، ولكن معظمها يأتي من البيئة المحيطة بواقعها وتاريخها؛ فهي المختبر الذي يعلم الأفراد والمجتمعات. ذلك أن التعلم بالتجربة ومعرفة الصواب والخطأ بالتعلم اليومي والمواجهة مع الحياة والأفكار، تقتضي أن يكون الإنسان خالدا لا يموت، فلا يمكنه استيعاب التجارب وتصحيح أخطائه وتطبيق معارفه إلا في حياة أبدية غير محدودة. كيف نتعلم في زمن قصير محدود التجارب والأخطاء والمعارف الكثيرة جدا، ونستوعبها ونتجنب تكرارها ومرارتها؟
لكن في مقابل هذه المقولة، يمكن الجدال، وبقدر من الصحة، بأن الإنسان يظل سعيدا ما دام غافلا؛ فإذا انتبه شقي وتألم. فكل ما نعيشه من ألم وتعاسة، مرده إلى الوعي والتفكير. وإذا كانت السعادة هي هدف الإنسان؛ أفرادا ودولا ومجتمعات، فما جدوى المعرفة إن كانت تتناقض مع السعادة؟
يحب أحدنا عمله ويجتهد فيه. لكن حين يدرك عدم جدواه، وفقدان المعنى فيه، وأنه لو توقف عن العمل فلن يحدث شيء ولن ينتبه أحد، كما لن يتضرر أحد، يصيبه إحباط واكتئاب وشعور بالتفاهة والغبن.
وأنت تستمتع بالطيبات والرغبات والشهوات، إذا أدركت ما تتضمنه من قذارة ووحشية واعتداء على الكائنات وظلم للناس، وأنك تستمتع على حساب الآخرين والبيئة والحياة والكون، ستفقد الرغبة في كل شيء، وتعذبك قطرة الماء التي تبها أو تستحم بها، ولقمة الخبز التي تأكلها واللباس الذي تلبسه... وكل احتياجات الحياة تتحول إلى تأنيب ضمير وشعور بأن كل متع الحياة ومتطلباتها جاءت إليك بتضحيات وجهود وعرق وظلم الآخرين.
وتمارس العادات وتطبق القيم مطمئنا وشاعرا بالسعادة. فإن داهمتك أسئلة الصواب والخطأ والحكمة والحياة، تكتشف الوهم والسراب، وتنهار عليك جدران هائلة وسميكة وثقيلة جدا من بيوت السعادة والشقاء، وتصير شقيا حائرا لست سعيدا بيقينك ولا عدم يقينك.
وتمضي في حياتك وأفكارك مطمئنا إلى ما تحسبه صوابا أو تثق به، فإن فقدت الثقة واكتشفت الخطل، وكم هي واهية المنظومة التي تحسبها تنظم الحياة والأعمال، فقدت الشعور بالثقة والأمان؛ فلا تطمئن إلى طعام أو دواء أو بنك أو مؤسسة أو قانون... تخيل حياتك من غير ثقة، تخيل أنك تثق بلا دليل ولا معرفة كافية.
وتسعد بصحبة الناس وتندمج في المجتمع وتنتمي إليه، فإذا أدركت كم يحبك الناس ويتضامنون معك ويكنون لك مشاعر الود والاحترام، تدخل في عزلة قاسية مملة.
أظن أننا في مواجهة معضلة وجودية كبرى؛ إما أن السعادة هي الألم، فلا يعقل أن تكون المعرفة شقاء، أو أن السعادة هي البداء في الحياة والفكر، فلا تبدو لنا حواسنا مخطئة في إدراك الأشياء وفهمها! ولكن مهما يكن، فإن الحكمة لا يمكن الوصول إليها إلا بمقدار التحرر من الآلام والرغبات!
(الغد 2016-05-11)