في الساحة الحمراء..العرض عسكري والحل سياسي !
شاهدت وتابعت العرض العسكري للجيش الروسي في ذكرى الانتصار على النازية ثلاث مرات ، لأنني كنت بحاجة الى مثل هذا المشهد كي أصدّق ، بالصوت والصورة ، أن العالم خرج من هيمنة القطب الواحد وعاد الى تعددية الاقطاب. العرض العسكري أعاد للساحة الحمراء مجدها وماضيها وهيبتها. وهي الساحة التي أطلق عليها الروس في الماضي اسم « الميدان الجميل « الى أن غلب عليها اسمها الحالي « الساحة الحمراء «.
هناك من يرجح أن الروس اطلقوا على الساحة الحمراء اسمها قبل انتصار الثورة البلشفية وحكم الحزب الشيوعي بعلمه الاحمر ، فهم يعتقدون ان الساحة اكتسبت هذا الاسم بعد مجزرة ارتكبها القيصر ايفان الرابع ( ايفان الرهيب ) في هذا المكان بعدما حوّل موسكو الى عاصمة جديدة لامبراطوريته مترامية الاطراف ، في منتصف القرن السادس عشر ، عقب سلسلة حروبه التوسعية.
وقف الرئيس بوتن ، يحيط به كبار المسؤولين وقادة الجيش وعدد من المحاربين القدامى ، يشاهدون باهتمام واعتزاز العرض العسكري الاضخم ، الذي كان بمثابة عرض عضلات وقوة عسكرية لروسيا الناهضة. المشهد حمل الكثير من الرسائل للأعداء والاصدقاء. ومن الساحة الحمراء خاطب بوتن قادة الدول الاخرى دعاهم الى الانضمام لجهود روسيا في محاربة الارهاب ، واعلن استعداد بلاده للمشاركة في بناء نظام امني دولي جديد.
هذا العرض العسكري الضخم ، لم يمنع موسكو من متابعة جهودها السياسية للتوصل الى حل سياسي للصراع في سوريا والازمات الاقليمية الاخرى. ففي الوقت الذي كانت فيه الدبابات الأحدث تعبر الساحة الحمراء صدر البيان الروسي–الاميركي المشترك بشان سوريا ، ومن اجل تجديد الهدنة وفرض التهدئة، وايصال المساعدات الانسانية للمناطق المحاصرة والمنكوبة. في الوقت ذاته أشار الرئيس بوتن الى ان الوضع في سوريا معقد جدا وامام الجيش الكثير ليفعله ، كما يأمل الرئيس الروسي أن يساهم التعاون بين موسكو وواشنطن في احداث تغيير في الاوضاع داخل سوريا.
ولكن رياح المعارك الاخيرة ونتائجها في حلب وريفها جاءت بما لا تشتهي سفن روسيا وطائراتها ، ولا في مستوى التفاؤل بالتنسيق الروسي الاميركي ، لأن الثابت والواضح أن في هذا التنسيق الكثير من الشوائب والخداع من الجانب الاميركي. صحيح ان موسكو مندفعة باتجاه التنسيق مع الولايات المتحدة، وهي تحاول كسب الوقت للتوصل الى حل في سوريا قبل انتهاء عهد الرئيس اوباما ، لأنها لا تراهن على موقف الادارة الجديدة في البيت الابيض ، وتخشى التصعيد المستقبلي في الملف السوري في عهد رئيس غير مضمون في سياسته الخارجية ، ولكن ما نراه على ارض الواقع اليوم لا يبعث على التفاؤل ولا الثقة.
نتائج الهجمات الاخيرة على حلب وريفي دمشق وحمص من قبل التنظيمات المتطرفة ( النصرة وداعش ) تؤكد أن هناك من استغل الهدنة ، التي كانت ثمرة للتعاون الروسي الاميركي ، وقام بدعم هذه التنظيمات الارهابية ومدها بالعتاد والسلاح والرجال، بعدما نجح الطيران الروسي ، قبل سحب بعض طائراته ، في شل الجزء الأكبر من قوات هذه التنظيمات وتدمير اسلحتها وتحصيناتها وبنيتها التحتية ، ولا شك أن الولايات المتحدة تعلم عن هذه التعزيزات وتعرف مصادر الدعم.
الحقيقة أن روسيا مندفعة الحماسة باتجاه التنسيق مع واشنطن ، من اجل تثبيت الهدنة واستئناف الحوار في جنيف املا بالتوصل الى صيغة لحل سياسي ، ولكن ما نخشاه ان النوايا الروسية لا تتطابق مع الاهداف الاميركية ، رغم ابتسامة جون كيري والكلام الاميركي المعسول ، حول الحرب على الارهاب. وما نخشاه ايضا أن يستمر دعم التنظيمات الارهابية ومساعدتها على التقدم بهدف احداث تغيير على الارض يساعدها على تقوية موقفها التفاوضي وفرض شروطها ، أو رفع سقف مطالبها ، او يمكنها من افشال الحوار ، كما حدث في جنيف مؤخرا. في ذلك الوقت ستدرك موسكو ان الطريق الى جهنم مرصوف بالنوايا الحسنة... والحلول السياسية الوهمية !
(الرأي 2016-05-13)