أزمة المثال في العمل والتخطيط
لدينا في فهم المسائل والجدل حولها، فائض في معرفة "الكمال"؛ بمعنى النهايات المرغوبة أو ما نتطلع إليه ونحب أن نكون عليه. ولدينا، أيضا، فائض في فهم الواقع ونقده وتحليله. ولكن يبدو أن لدينا أزمة خانقة في فهم وتقدير التحرك من الواقع إلى الكمال. ولشديد الأسف، فإن الكتابة الصحفية ليست ملهمة، وليست هذه وظيفتها إلا بنسبة ضئيلة، ولكنها معالجة (يفترض) واقعية تتسم بالقسوة والملل، وحين تتجه إلى الإلهام والتحريض والتحفيز، فإنها تضحّي بجزء كبير من وظيفتها الأساسية وجوهرها. وفي غياب هذا الدور (الإلهام) عن فضائه الطبيعي والمقترح، وهو المسرح والدراما والسينما والشعر والقصة والرواية والموسيقى والفنون التشكيلية والنحت والتصميم والتراث الشعبي والعادات والتقاليد والقيم والأعراف؛ أو في الرياضات في تطبيقها الثقافي والاجتماعي، وكما تعبر عنها الألعاب الأولمبية، فإننا نفقد المورد الأساسي المحرك للشباب باتجاه التأثير والمشاركة والعمل العام والتطوعي، ومن ثم تغيب حلقة أساسية في التشكل الاجتماعي الاقتصادي للمجتمعات والمدن والبلدات.
لدينا ثلاثة قطاعات رئيسة للعمل والتنظيم والتشكل، يفترض أنها مستقلة ومتكاملة أيضا. وهي حسب الترتيب في الوجود والتشكل: الموارد، وما يتبعها ويتشكل حولها من أسواق وتكنولوجيا وأعمال ومهن، وصارت تسمى "القطاع الخاص". والمجتمعات، بما هي المدن والبلدات والجماعات والبلديات والنقابات والمنظمات والمؤسسات الاجتماعية. والسلطات السياسية والتنفيذية والتشريعية والقضائية، وصارت تسمى "القطاع العام".
هناك وضوح وتمأسس في القطاع العام والقطاع الخاص، لكن المجتمعات تبدو حلقة غائبة. وفي ذلك، فإن المثال أو النموذج المفترض بناؤه والجدل حوله يفقد (إن وجد) قدرته على العمل والتأثير؛ فما من أسواق متماسكة ومزدهرة، وما من برامج وسياسات وتشريعات عامة عادلة وكفؤة من غير مجتمعات مستقلة ومنظمة وقادرة على المشاركة والتأثير.
يفترض أن كل مدينة أو بلدة قادرة، بمواردها ومساهمات أبنائها، على إقامة محطة للطاقة الشمسية، ومحطة لتكرير المياه، وخزانات لجمع المياه، وتعاونية استهلاكية لتوفير السلع الأساسية، يمكن توفير معظمها أو جزء كبير منها من موارد محلية، وبذلك تستطيع كل بلدة أن تخفض بنسبة تقترب من الاكتفاء الذاتي في الطاقة والمياه والسلع الأساسية. ويمكنها أيضا، بمواردها الذاتية، إقامة مركز للرعاية الصحية والاجتماعية، وناد رياضي ثقافي اجتماعي، ومكتبة عامة، وأن تدير منظومة للرعاية الاجتماعية بمشاركة القطاعين العام والخاص. كل البلدات في جميع أنحاء العالم تفعل ذلك! ومؤكد أن البلدات القادرة على بناء هذا العدد الكبير من المساجد والمضافات والدواوين العشائرية، هي قادرة بداهة على بناء وإدارة وتنظيم مؤسسات اجتماعية واقتصادية. والمواطنون الذين شاركوا بمئات ملايين الدنانير في البورصات، وينفقون مثلها في الأعراس والعزاءات، قادرون على بناء شركات واستثمارات في الماء والطاقة والصناعات الغذائية والدوائية.
ما الحلقة الغائبة في تشكل المجتمعات وتنظيمها، وقدرتها على الاستقلال والتأثير في السياسة العامة وفي الأسواق، وفي مشاركتهما؟ لدينا إشارتان على صعود المحافظات، يعكسهما قانونا الانتخاب واللامركزية. لكن من غير وعي باستقلالية المجتمعات والبلدات، وحماسة كافية مجتمعيا ورسميا، فإن القانونين لن ينجحا تلقائيا. إضافة إلى أن قانون اللامركزية لا يعكس بوضوح فلسفة استقلال المجتمعات، بل يبدو محكوما بهواجس الحذر من الناس، والرغبة في الهيمنة والتطرف المركزي! ما الحلقة الغائبة في تشكل المجتمعات واستقلالها وتمكينها؟
(الغد 2016-05-19)