الحوار الصيني -الأميركي.. دبلوماسية «التَرَبُّص»!
في خضم التحولات غير النهائية التي يشهدها العالم، بعد ان تبدلت الأولويات وتراجعت أدوار ومكانة وأهمية بعض الدول الكبرى وتلك الاقليمية, ولم تعد خريطة التحالفات التي استقرت او بدت كذلك, في اوائل القرن الحالي، مُرشحة للاستمرار في ظل التغييرات المتلاحقة التي تطرأ على موازين القوى وتهدد بالتالي نشوء نظام دولي جديد قد يختلف جذريا عن ذلك الذي اعتقد كثيرون وبخاصة بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي وانهيار حلف وارسو، انه سيكون نظاما اميركيا بامتياز في قرن وَسَمَه الاميركيون بانه «قرن اميركي»، فاذا بواشنطن التي «أسكرها» مصطلح «نهاية التاريخ» تفشل في «اغتنام» الفرصة غير المسبوقة المتاحة لها وتواصل نهجها العدواني السابق الذي دأبت عليه منذ اندلاع الحرب الباردة، والتي اسهمت بل كانت صاحبة اليد الأولى في اندلاعها.. ليرى العالم اجمع ومع مرور ربع قرن على ذلك الحدث الجيوسياسي الاكثر خطورة في القرن العشرين، ان نظاما دوليا جديدا لم «يُستولَد» بعد، وان بروزه مرهون بما ستفرزه الحروب غير الساخنة في معظمها – حتى الآن – الدائرة على اكثر من صعيد اقتصادي وتجاري وعسكري واستراتيجي والكتروني (حروب السايبر) تُشارك في معظمها قوى امبريالية تقودها الولايات المتحدة وتواجهها في شكل شبه مباشر روسيا والصين, وان بدرجات ومقاربات وحسابات متفاوتة.
نقول: في غمرة هذه التحولات يبدو الحوار الاميركي الصيني الاستراتيجي والاقتصادي الذي انهى نسخته الثامنة يوم امس, وكأنه محاولة من الطرفين لمنع الانزلاق الى مواجهة ساخنة بدت في السنوات الثلاث الأخيرة وكأنها تتصاعد باستمرار, بعد ان بدأ الصراع المفتوح على منطقة بحر الصين الجنوبي التي تستأثر باهتمام متزايد من قبل الاطراف ذات الصلة وعلى رأسها الولايات المتحدة, التي ترى ان السيطرة على تلك المنطقة ستُحدِّد مستقبل القوى العظمى في القرن الحالي, وتؤشر الى المكانة التي ستكون عليها واشنطن في مواجهة الصين الصاعدة التي تراكم قوتها وخصوصا العسكرية وفق برنامج طموح, وإن في حرص على تكرار القول: إن صعودها سيكون سلمياً ولن يأخذ اي شكل عدواني او مواجهات عسكرية ما لم تُفرض عليها.
لهذا بدا واضحاً للرئيس الصيني شين جين بينغ، طبيعة الصراع الذي تخوضه بلاده عندما دعا في افتتاح جلسات الحوار: الى التعامل بطريقة براغماتية وبنّاءة, وفي العمل على خلق دوائر مشتركة من الأصدقاء لا دوائر»مُغلَقة» (في اشارة لا تخلو من دلالة, الى الاحلاف ذات الطابع العسكري التي تُقيمها الولايات المتحدة, والتي تأخذ شكل الصفقات و المناورات العسكرية, وايضا ما تعهد به الرئيس اوباما عندما قال في استفزاز واضح لبيجين: «إن واشنطن سـَ(تضمن) حرية الملاحة في بحر الصين الجنوبي».
وإذ يُدرِك جين بينغ ان ما تقوم به الادارة الاميركية المُوشِكة على الرحيل, ليس مجرد تحرش او مناكفة فحسب، بل هي جزء اساسي من استراتيجية اميركية طويلة المدى ولا اهمية لـ»جنس» ساكن البيت الابيض او بطاقته الحزبية، فإنه ابدى رغبة واضحة: «..بالتعاون مع جميع الدول، لجعل النظام العالمي اكثر عدلا وعقلانية وذلك على اساس ميثاق الأمم المتحدة» في الوقت ذاته الذي لفت فيه الى الصراع حول بحر الصين الجنوبي عندما قال في عبارة واضحة الاشارة: «منطقة المحيط الهادئ الشاسعة, يجب ان تكون ساحة تعاون وليس فقط منطقة تنافس, مُطالباً «بأن تُعزّز الولايات المتحدة والصين, ثقتهما المُتبادلة وكذلك تعاونهما في آسيا والمحيط الهادئ».
ثمة إذاً وضوح في القراءة الصينية التي لا تريد التصعيد مع ادارة تستعد لمغادرة موقع اتخاذ القرار, فضلاً عن انها في مكان آخر ترفض على لسان رئيس هيئة اركانها الضغوط الاميركية الرامية لكبح انشطتها في بحر الصين الجنوبي وتؤكد بحزم انها «لا تختلق المشاكل ولكنها لا تخشاها».
الرسالة الصينية واضحة, وإن كانت واشنطن تبث هي الاخرى رسائل تبدو واضحة لكنها مرتبكة, في ظل ادراكها ان الوقت لن يُسعِفها كي تترجم تهديداتها على ارض الواقع, سواء تلك التي اطلقها الرئيس اوباما نفسه ام ما قاله وزير الدفاع اشتون كارتر، الذي تحدث بلغة الحرب الباردة.
مجرد استمرار الحوار, يشي برغبة مشتركة في الإبقاء على جسور التواصل بين قوة عظمى ما تزال رغم ما لحق بها من تراجع وضربات تتقدم المشهد الدولي, واخرى صاعدة لا يختلف اثنان على انها سائرة للجلوس على مقعد الدرجة الاولى العالمي في «شراكة» وليس بالضرورة منفردة مع واشنطن, التي ستبقى الى امد منظور قريب تتمتع بتلك الصفة وان باستعلاء واستكبار يدّعي الفرادة والقيادة المنفردة, ويرطن بهمروجة حقوق الإنسان وحرية المُعارِضين وتطبيق القانون.
ما يعني في سياق آخر, ان بيجين لن تتنازل عن دعوتها واشنطن للتعاطي معها وفق «مبدأ النِدّية والاحترام المُتبادَل, والتعاون من اجل الخير العام» على ما دأب مسؤوولها القول في اكثر من مناسبة وعلى اكثر من صعيد.. انها دبلوماسية «التربص» التي لن يتخلى الطرفان عنها قريباً او بسهولة.
(الرأي 2016-06-08)