نـهايـة مـوسـم التـفـاؤل
احتفى كثيرون بانتعاش المسار السياسي لحل القضية الفلسطينية، والتي باتت تعرف باسم كودي هو «عملية السلام في الشرق الأوسط» ... سبب هذه الحفاوة المفاجئة، يعود للمبادرة الفرنسية بعقد اجتماع وزاري في باريس للنظر في المسألة، وما أعقب تلك المبادرة، والأحاديث التي صاحبتها عن «صحوة أمريكية» متأخرة لبلورة «مبدأ أوباما» لحل القضية الفلسطينية، من محاولات إسرائيلية لـ «الهروب إلى الأمام»، عبرت عنها التصريحات «الإيجابية» التي أطلقها الثنائي نتنياهو – ليبرمان حول «المبادرة العربية»، وما نقله سيرغي لافروف عن نتنياهو من موسكو من أقوال تدعم المبادرة وتؤيد اعتبارها أساساً للحل الشامل. يومها، وبخلاف هؤلاء، قلنا إن أكثر ما يهم إسرائيل، وبالأخص حكومتها اليمنية المتطرفة، هو الشق المتعلق بسلام إسرائيل و»تطبيعها» مع 22 دولة عربية، مضافاً إليها 35 دولة إسلامية، أما الجوانب المتعلقة بالدولة الفلسطينية على حدود 67 والانسحاب من جميع الأراضي العربية المحتلة إلى خطوط الرابع من حزيران، وحل مشكلتي القدس واللاجئين، فتلك «أثمان» لا يوجد أحد في المستوى السياسي/الأمني الإسرائيلي، مستعد لدفعها، ولا يمتلك أحد في هذه القيادة القدرة على دفعها، بفرض توفر الرغبة الحقيقية والنوايا الحسنة. ولقد شهدنا على قدر «التعجل» وأحياناً «السذاجة» في التعامل مع الإعلانات المتكررة لنتنياهو – ليبرمان عن مبادرة قمة بيروت، حيث صدرت تصريحات في عواصم عربية ودولية عدة، ترحب وتثمن وتبعث على الأمل بقرب استئناف المسار المعطل منذ سنوات طوال ... في ظني، أن بعض تلك التصريحات عبّرت عن «تفكير رغائبي» لدى فريق من المرحبين، وعن قدر من عدم الإلمام بالمشهد الإسرائيلي عند بعضهم الثاني، وعن محاولة لإلزام قادة إسرائيل بتصريحاتهم العلنية عند بعضهم الثالث، على أمل أن يشكل ذلك، «تكتيكاً ضاغطاً»، يمكن توظيفه في محاولات إنقاذ «حل الدولتين» من انهيار محتم. على أية حال، نتنياهو قطع الشك باليقين، وهو لم ينتظر طويلاً لوضع نهاية لموسم التفاؤل، لفعل ذلك ... أصدر مكتبه تصريحات فورية، نفت جملة وتفصيلاً ما ذهب إليه لافروف ... وقبل يومين، وفي اجتماع لوزراء الليكود، نطق بـ «القول الفصل»، عندما قال بأن حكومته سترفض المبادرة العربية إن تم وضعنا أمام خيار وحيد: أخذها كاملة أو رفضها كاملة. نتنياهو أعاد تأكيد أن الجانب الوحيد الإيجابي في المبادرة، هو السلام مع العرب والمسلمين (وليس الفلسطينيين من ضمنهم بالطبع) والتطبيع مع دولهم وحكوماتهم، أما حكاية الجولان والقدس واللاجئين وخط الرابع من حزيران67، فليس من الأمور الخاضعة للتنازل والتفاوض بأي حال ... دفعة واحدة، «يدلق» نتنياهو الماء البارد على أصحاب المواقف الساخنة، المرحبة بـ «التطور الجديد» في المشهد الإسرائيلي، ويعيد نتنياهو العرب وقادتهم ومبادرتهم، إلى المربع الأول، لكأنه ما زال في ذروة الحرب على الضفة الغربية زمن «السور الواقي» وحصار ياسر عرفات في مقاطعته في العام 2002 وصدور المبادرة. قد يكون بعض الذين أسرفوا في الاحتفاء بـ «نتنياهو الجديد»، قد أصابهم الذهول من عودة الرجل إلى مواقفه السافرة القديمة، من دون «رتوش» أو عمليات تجميل، لكن من يعرف الرجل وتاريخه، والأهم، من يتابع تطورات السنوات الأخيرة في إسرائيل، يدرك تمام الإدراك، أن «نتنياهو الثاني»، مثله مثل «نتنياهو الأول»، لم يغير ولم يبدل شيئاً من سياساته القائمة على كسب الوقت وتقطيعه، وفرض الوقائع الاستيطانية على الأرض، وتصعيد سياسة الضم الزاحف للأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة. هو «موسم تفاؤل» قصير على أية حال، فما أن انفض الجمع في باريس، حتى بدأت المبادرة تفقد زخمها، بل ويمكن القول إنها ولدت ميتة، منذ أن أخفق الاجتماع الوزاري في الخروج بجملة واحدة تضاف إلى ركام القرارات والتوصيات والمرجعيات التي رافقت عشرات الجولات التفاوضية بين الجانبين، طوال ربع قرن، ومن دون جدوى. والأرجح أن العرب، واستتباعاً الفلسطينيين، الفاقدين للخيارات والبدائل، ومن موقع العجز الضاربة جذوره في عمق البنية العربية، لن يتوقفوا عن الرهان على وصول «الترياق» ذات يوم، من باريس أو واشنطن، أو غيرهما من عواصم العالم، لا فرق... وستظل سياسة الانتظار، والمراقبة عن بعد، هي سيدة البيانات الختامية لمؤتمرات القمم ووزراء الخارجية العرب المتعاقبة، فيما «جرافات» الاستيطان، تواصل قضمها المتدرج لأرض الفلسطينيين وحقوقهم وحيوات أبنائهم وبناتهم.
(الدستور 2016-06-17)