اتفاق روما: نهاية «البازار» التركي!
لم يعُد امام تركيا المزيد من الوقت لمواصلة «بازار» المزايدة الذي افتتحته مباشرة بعد المذبحة التي ارتكبتها اسرائيل بحق اسطول الحرية, الذي سعى منظموه الى لفت انظار العالم لأوضاع قطاع غزة الكارثية، فأقدم جيش الاحتلال على جريمته التي سقط فيها الشهداء والجرحى من جنسيات مختلفة كان المتضامنون الاتراك من اكبر الذين دفعوا من دمائهم ثمن هذه الغطرسة الاسرائيلية، لكن المستوى السياسي في أنقرة اتخذ من ذلك الحادث المأساوي فرصة للاستثمار السياسي والدعائي، وراح يرفع شعارات ومطالب تفوح منها رائحة المزايدة، بدا في لحظة ما وكأنه اكثر فلسطينية وعروبة من بعض الاطراف العربية، حيث لاقى ذلك الخطاب المحسوب بدقة والمحمول على درجة عالية من الحذر على نحو يسمح له بالتراجع في أي وقت، هوى وقبولاً لدى بعض الكارهين لعروبتهم وخصوصاً اولئك المتأسلمون الذين نظّروا لنا بأن «دولة الخلافة» الجديدة في انقرة توشك على البزوغ, وان سلطانها العثماني الموعود رجب طيب اردوغان, هو الذي سيقود الجحافل الى تحرير القدس وليس فقط كسر الحصار عن غزة, الذي عدّه «الضلع الثالث» لشروطه, حيث لن يتخلى «عنه» تحت أي ظرف, حتى لو اعتذرت اسرائيل رسمياً (وقد فعلت بوساطة من اوباما عبر هاتفه الخلوي كما تذكرون) ودفعت واحداً وعشرين مليون دولار (وأخيراً وافقت بعد مساومات طويلة) لكنها رفضت بحزم وعجرفة حتى مجرد مناقشة الشرط الثالث وهو رفع الحصار عن غزة، وها هي انقرة «تلحس» شرطها وترضخ لما تريده اسرائيل مقابل «ثلاثين فضة», لن تُسهم في انقاذ الكرامة التركية او تُمكِّن اهالي غزة من استعادة انسانيتهم المهدورة او حيواتهم المقموعة او ابنيتهم المتواضعة ولكن المهدمة منذ اكثر من عامين, دون ان يجدوا مَنْ يغيثهم او يسعف ظمأهم ويسكت جوع اطفالهم.
حسناً..
ستقولون ليس المطلوب من الاتراك ان يكونوا عرباً اكثر من العرب أنفسهم؟
صحيح هذا الذين تزعمون، ولكن لماذا اصّر حكام انقرة على إلباس المسألة لبوس «الاسلام» ودخلوا من بوابته؟ هذا اولاً, ثم لماذا فتحوا أبواب المزايدة وطمأنوا اهل غزة (وغير اهل غزة كما تعملون) بأن اخوّتهم الاسلامية لن تسمح لهم بخذلان الغزيين وان انقرة لن تتخلى عنهم؟ ثم هاهم الان يقطعون «الحبل» بهم ويقدّمون مصالحهم (التي لهم الحق كل الحق بحمايتها والدفاع عنها, ولكن دون مزايدة أو مناقصة كما فعلوا طوال ست سنوات ,منذ حادث ما في مرمرة) على مصالح اهل غزة الحياتية المتواضعة؟
ألم يلجأ الاتراك الى الغمز من قناة المصريين (وغير المصريين) واتهامهم علناً بأنهم يتواطؤون مع اسرائيل لابقاء الحصار على غزة؟ واذا كان الاتفاق الذي اعلنه نتنياهو من روما يوم أمس, وسيتم التوقيع عليه رسمياً اليوم الثلاثاء, قد ابقى الحصار على غزة, فهل يعترف عُشّاق «النموذج الاردوغاني» الان, بأن همروجة فك الحصار التركية ,كانت مجرد ذريعة لتحقيق اهداف سياسية ونكاية بالنظام المصري؟ الذي اطاح حكم الاخوان المسلمين في القاهرة وافشل مخطط أسلمة المنطقة ,لصالح المشروع التركي المشبوه, الذي ما يزال يُترجم ارهاباً في ما يحدث في سوريا من مذابح وارتكابات, لكنه سيلاقي الهزيمة بأسرع مما يتوقعون, بعد ان افلست انقرة وانكشفت مخططاتها ولم تعد قادرة على اخفاء كل اخفاقاتها والتستر على خسائرها المتلاحقة, التي ثبت – ضمن امور اخرى – انها قامت على اساس نظرية عنصرية, ترى في العروبة خصماً بل ربما عدواً لها وتريد الطمس عليها لصالح مشروع اسلاموي مشبوه.
ان تسمح اسرائيل لانقرة ببناء محطة تحلية أو مشفى أو محطة توليد كهربائية وايصال مساعدات وبضائع تركية الى قطاع غزة, ليس تنازلاً اسرائيلياً, والاتحاد الاوروبي يفعل ذلك منذ زمن لكنه – كما تركيا – لم يحصل على وعد اسرائيلي بعدم تدمير تلك المنشآت في أي عدوان على «القطاع» فضلاً عن ان كل تلك المعدات والبضائع التركية يجب أن تمر من ميناء اسدود, بعد أن يتم فحصها بدقة ودون أن تحدد مدة الفحص.
انه رضوخ تركي لكل شروط اسرائيل اللهم الا في حكاية الـ(21 مليون دولار) كتعويض عن دماء شهداء مافي مرمرة الاتراك, وعدا ذلك لا يعدو كشفاً سريعاً واقراراً تركياً بالافلاس السياسي والاخلاقي واستخدام مأساة غزة وأهاليها في البازار السياسي الاقليمي, وليس تعهد تركيا بمنع نشاط حماس على اراضيها سوى جزء من صفقة, نحسب ان لها بنوداً سرية لم تُكشف, والا لما قال نتنياهو من روما يوم امس ان الاتفاق مع تركيا سيكون له اثار هائلة على الاقتصاد الاسرائيلي ,لافتا الى أنه يقول تلك الكلمة»هائلة»عن قصد, دون أن ننسى للحظة أن التعاون الاستراتيجي الامني والعسكري بين انقرة وتل ابيب لم يتوقف للحظة من العام 2010 حتى الان, فضلاً عن عدم معارضة تركيا فتح اسرائيل مكتب لها في قيادة حلف شمال الاطلسي في بروكسل.
اهلاً بالاخ «رجب»في غزة, سيهتف انصار حماس للرئيس التركي عندما يصل القطاع قادما من...»تل ابيب».
(الرأي 2016-06-28)