موتك الأول
قفزتان في الدرج للأسفل، عودة سريعة للأعلى، أردد طلبي في أعماقي وأعد نفسي أن لا "أتتأتأ" سأهجم كالأسد (أزأر بكل ود واحترام)، وسينفذ أبي طلبي حتماً، وإن رفض سأعود للغابة أبحث عن ضحية محترمة أفرغ غضبي عليها.
أرى قدميه من خلف الباب، وأحاول تفسير مزاجه، لكني أفشل في ذلك، قبلها بثلاثة أيام أهتم بتلميع الهواء لأجله، اقتحام مجلسه والتحول إلى صبي قهوة (شاي - قهوة)، ثم الحديث معه عن الصحف التي يأتي بها أو تقديم تقرير يومي عن عملي الممل.
يبتسم هو بلطف ذكي، وكأنه يعي استعداداتي تلك.
أتمنى لو يسألني: (ما هي طلباتك؟)؛ كي أقسم أني أفعل ذلك بدون أغراض أو نوايا، لكنه لا يفعل، هو يؤجل سؤاله لليوم الموعود لهذا اليوم الذي أقف فيه خلف الباب، ويشتد فيه عمودي الفقري ويصيبني مغص مزمن، وتقرر حبالي الصوتية أن تصير شاحبة.
من خطواتي الأولى أمام الباب يستقبلني (خير هاتِ ما عندك)، فأفقد كل الأدعية التي حفظتها غيباً، وأطرح بحذر طلبي البائس أرضاً متحاشية النظر إلى عينيه كي لا أفقد شجاعتي المصطنعة.
يحدث أحياناً أن أتراجع عن طلبي وأخبره أنني جئت كي (أتأكد إن كان يحتاج شيئاً مني)، ثم أزرع قبلة سريعة على جبينه، وأخطف ذيلي وأتقهقهر للوراء.
حين أقرر عصيان أوامره واختراق الأنظمة أبدل اسمه في هاتفي إلى (قيصر).
(قيصر يتصل بك) هكذا سأضمن أن أفقد وعيي سريعاً وأني لن أعاني سكرات الموت.
قيصر الجميل كانت لديه تجليات رائعة كشتيمته الموحدة التي يستخدمها في حال غضبه، وفي حال قرر إبداء إعجابه (الفارق فقط يكمن خلف نبرة الصوت ودرجة ارتفاعه).
بعد وفاته أصابني اكتئاب غريب فكل الأشياء السيئة في نظري حدثت وتحدث بسبب فقدان والدي.
أصابتي بالزكام، مشاكلي في العمل، ضياع مبلغ مالي بسيط مقابلة الأوغاد.. إلخ.
لكنني شفيت فجأة بعد صدمة انشطارية أعادت لي توازني.
الآن اكتفي بمراقبة كل أولئك الذين ما زال الله يحفظ لهم آباءهم.
أود إسداء الكثير من النصائح ولا أعرف إن كان هذا مجدياً، فالكثير منهم حمقى عظماء، لكني سأفعل في عهد أبيك. بإمكانك أن ترتكب الكثير من الجرائم فهناك من سيحميك وبقوة.
بإمكانك أن تستمتع بكل الأشياء الخطرة والمحرمة وأنت ترتكبها بخوف وحذر.
لن تجد من تستأذن منه وهذا الأمر يبدو كارثياً.
تلك الرائحة المطمئنة التي تحتل العالم ستختفي.
وستزدحم الكثير من القُبلات اليتيمة التي فقدت عنوانها وستضطر أن تضعها في رف بارد وكئيب لا يليق بأي منها.
قُبلة الشكر، قُبلة الاعتذار، قُبلات العيد.
(موت الآباء هو موتك الأول، ولن يخيفك شيء بعدها).