النهضة العربية
التشظي والانقسامات التي تعيشها معظم الدول العربية التي اجتاحتها الانتفاضات الشعبية، ليست وليدة اليوم ولا يمكن تفسيرها بالأحداث التي عصفت بالمنطقة في السنوات الماضية.
إذ إضافة لاحتلال العراق الذي عادة ما يتم تجاهله في تفسير الأحداث الجارية في المنطقة، لا بد من النظر في البعد المتعلق بمفهوم وطبيعة "الدولة العربية" التي تشكلت في مرحلة ما بعد الاستعمار. والتحدي الرئيس الذي واجه الدول العربية في القرن الماضي هو بناء الدولة الحديثة التي ظهرت في الأساس قبل عدة مئات من السنين فقط في أوروبا والولايات المتحدة. صحيح أن العالم العربي خبر دولاً وامبراطوريات تاريخياً، لكن الدولة الحديثة مختلفة؛ إذ إنها تقوم على مفهوم الدولة-الأمة، وهي الأقرب إلى مفهوم الدولة القطرية المتعارف عليها.
والأيديولوجيا حكمت أو كان تأثيرها كبيرا على الدول العربية؛ سواء كانت غير متقبلة أو رافضة في بعض الأحيان لفكرة الدولة القطرية وتعتبرها مرحلة أولية للوصول للدولة الأكبر، كما في الأيديولوجيات القومية أو الدينية.
الأيديولوجيا القومية حاولت دمج القوميات غير العربية وإخضاعها للدولة، أي للقومية العربية؛ فأنكرت على الأقليات القومية استخدام لغتها ورموزها الثقافية، كما حصل في العراق وسورية والجزائر. كذلك، لم تكن الرؤية الفكرية العقائدية في البناء القومي متصالحة مع الدين، وكانت أقرب للعلمانية الحادة من دون ديمقراطية. والأيدولوجيا الدينية أيضاً لم تعطِ الاهتمام الكافي للبعد الوطني أو القومي أو الأقليات الدينية أيضاً، وكانت في الوقت نفسه معادية أو مناهضة للدولة العلمانية، أو حتى أي مفهوم يتعلق بالدولة الوطنية، لقناعتها بأنها ضد الدين.
لذا فإن التركة الأيديولوجية القائمة على إلغاء الآخر في عمقها، لأغلب الأنظمة العربية، ساهمت بشكل كبير في فشل مجمل منظومة الدول العربية الحديثة في عملية إدارة التنوع الثقافي في هذه الدول؛ سواء كان ذلك التنوع مبنيا على اللغة أو العرق أو القومية أو الدين. وبالطبع، هناك استثناءات، لكن كانت هذه الصفة العامة للدولة العربية الحديثة.
المشروع العربي الأصيل والذي يكاد يكون الوحيد، هو النهضة العربية. والذي حملته الثورة العربية الكبرى بعد الحرب العالمية الأولى. وقد تميزت النهضة العربية بقدرتها على تجاوز الإشكاليات التي وقعت فيها الأيديولوجيات السابقة.
النهضة العربية كانت في جوهرها قومية، سواء من حيث الناس والفئات التي شاركت فيها من مناطق مختلفة، أو من حيث فكرتها الأساسية بإقامة الدولة العربية وخاصة في المشرق العربي. كذلك، فإن الشريف الحسين ومبادئ الثورة العربية كانت متسلحة بالشرعية الدينية، لكنها لم تكن إقصائية للأديان الأخرى، لأن البعد العروبي في أصله يشمل كل الأديان ولم يقتصر فقط على دين بعينه.
أما بالنسبة للعلمانية، فإن الثورة العربية لم تكن علمانية، ولكنها كانت حداثوية، لأنها كانت مؤمنة بالديمقراطية والمشاركة الشعبية، وتعترف بالتنوع الثقافي بأشكاله المختلفة. وإذا ما نظرنا للأسس التي قامت عليها الدولة الهاشمية في العراق والأردن، لاتضح لنا أنها منذ تأسيسها كانت دولة قادرة على التعاطي والتعامل مع مكونات الشعب كافة في تلك التجارب.
إذن، مشروع النهضة العربية أثبت بالتجريب قدرته على التعامل مع جميع المعضلات التي واجهت بناء الدولة الحديثة، بالإضافة إلى امتلاكه رؤية وحدوية مرنة قابلة للتطبيق بعيداً عن القوالب الهشة أو الصلبة التي كانت تعصر وتكسر عند أضعف المحكات. ولعل هذه الأسباب هي التي تفسر الموقف العدائي الذي اتخذته الدول الاستعمارية في حينه ضد الثورة العربية الكبرى وسعت لإفشالها في أكثر من موضع.
والدولة الأردنية والشعب الأردني هما الوريثان الحقيقيان لمبادئ الثورة العربية الكبرى. حيث نجد هذه المبادئ حاضرة في مؤسسات الدولة الأردنية. وكانت كذلك خلال مسيرتها وما تزال قادرة على صهر الجميع في الهوية الجامعة.
أيضا، فإن الشعب الأردني احتضن وتبنى مبادئ الثورة العربية الكبرى التي حملها الهاشميون، ودافع عنها. وأصبحت الهوية الأردنية هاشمية عربية. ولعل الجيش الأردني خير مثال على تلك المبادئ الإنسانية العميقة التي احتضنها الشعب والقيادة.
بعد مائة عام من انطلاقة النهضة العربية، وفي ظل التشظي الذي تشهده المنطقة، بات من الضروري الانطلاق بالنسخة الثانية من النهضة العربية التي يشير لها جلالة الملك في رسائله الملكية في أكثر من موضع، ليستطيع الأردن حملها، ولتحمل الأردن ليكون أنموذجاً للدولة العربية الحديثة.
(الغد 2016-08-18)