قانون العفو العام وأزمة الدولة العراقية

تم نشره الخميس 18 آب / أغسطس 2016 01:40 صباحاً
قانون العفو العام وأزمة الدولة العراقية
يحيى الكبيسي

يناقش مجلس النواب العراقي هذه الأيام مشروع قانون العفو العام الذي طال انتظاره، فمنذ تقديم مقترح هذا القانون في العام 2012، وهو مدار سجال، وابتزاز، وبروباغاندا، تبعا لمستخدميه! كما أنه كان حاضرا بقوة في اتفاق تشكيل حكومة السيد حيدر العبادي نفسها.

يشدد اللورد دينيس لويد في كتابه «فكرة القانون» على أن القانون يجب أن يكون رديفا للعدل، وأنه دعامة أساسية للديمقراطية، وأنه «مادام من غير الممكن تطبيق المساواة الصارمة في كل المجالات، فإن التعبير الصحيح عن التنظيم الديمقراطي للمجتمع هو المساواة القانونية (المساواة أمام القانون)، ولا أحد فوق القانون، والحقوق السياسية العالمية، إضافة إلى مبدأ عدم التمييز بسبب العرق أو اللون أو العقيدة». ولكن مشروع القانون الذي تتم مناقشته يعكس، بل ويكرس، أزمة الدولة العراقية بعد 9 نيسان/ابريل 2003 من جهة التعامل الفوضوي مع فكرة القانون. فقد جاءت مسودة القانون محملة بالكثير من التناقضات التي تنسف مفهوم القانون بوصفه «قاعدة عامة مجردة»، ومن ثم لسنا في الحقيقة أمام نص قانوني وإنما أمام إرادة سياسية لطرف مهيمن!

تأتي قوانين العفو العام غالبا لتحقيق هدفين مختلفين تماما. الاول: الهدف الاجتماعي، وهو ما يمكن ان نفسر به معظم قوانين العفو التي تصدرها الدول كجزء من إعادة النظر في الاجراءات العقابية ضد الأفراد الذين ارتكبوا جرائم معينة من أجل إعادة إدماجهم في المجتمع. الثاني: الهدف السياسي، وهو ما يمكن ان نفسر به قوانين العفو التي تصدرها دول تعرضت لأزمات سياسية حادة في لحظة ما أدت إلى صراع سياسي ارتكبت خلاله بعض الجرائم، كجزء من اجراءات «العدالة الانتقالية». فالمركز الدولي للعدالة الانتقالية يعرف العفو العام، في هذا الإطار، بانه «ضمان الحصانة او الصفح بعدم الخضوع للقانون المطبق، والذي تمنحه دولة ما لفئة معينة من الأشخاص عن فئة معينة من الجرائم. وعادة يتم اللجوء إلى العفو العام كإجراء استثنائي لمواجهة حدث او فترة غير عادية في حياة أمة من الأمم».

إن التمييز السابق يستدعي تمييزا آخر بين الجرائم العادية والجرائم السياسية، وهو التمييز الذي تقره الكثير من قوانين العقوبات في العالم، ومن بينها قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 الذي ينص في المادة 21 على أن «الجريمة السياسية هي الجريمة التي ترتكب بباعث سياسي أو تقع على الحقوق السياسية العامة أو الفردية وفيما عدا ذلك تعتبر الجريمة عادية». فقوانين العفو الاجتماعية تتعامل عادة مع الجرائم العادية، أما قوانين العفو في إطار العدالة الانتقالية فتتعامل مع الجرائم السياسية. ويكون الفيصل في هذا التمييز ليس الفعل الجرمي نفسه وأنما في الدافع إليه وفي السياق الذي حصل فيه.

إن مراجعة قانون العفو رقم 19 لسنة 2008 تكشف عن إغفال صريح لهذا التمييز، فقد وجدنا يتعامل مع الجرائم ذات الطابع السياسي والجرائم العادية بالآلية نفسها، هكذا وجدناه يساوي بين جرائم الارهاب، وجرائم السرقة على سبيل المثال. وقد تكرر الأمر نفسه في مشروع قانون العفو الجديد. إن عدم التمييز هذا يعني صراحة عدم وجود إرادة سياسية حقيقة لفتح موضوع الجرائم السياسية بشكل صريح، بل ومعاملتها معاملة الجريمة العادية، مع كل ما يستتبع ذلك تداخل الاستقطابات السياسية وعلاقات القوة القائمة في السلطة اليوم في هذا الملف. وعدم وجود رؤية سياسية لأهمية البدء بفتح ملف الجرائم السياسية التي ارتكبت بعد 2003 كجزء من إجراءات بناء الثقة في إطار العدالة الانتقالية او المصالحة الوطنية، كجزء من ترتيبات ما بعد داعش على أقل تقدير. أي الاعتراف بان الكثير من هذه الجرائم السياسية إنما جاءت في إطار الصراع الحاد على السلطة الذي دخلت فيه القوى السياسية والمكونات الاجتماعية العراقية المختلفة، خاصة وأن السلطة/الدولة نفسها كانت جزءا فاعلا في هذا الصراع. وأن الوضع القائم لا يحقق فكرة العدالة وإنما يكرس إرادة الطرف الأقوى، أو الطرف الذي يعد نفسه المنتصر في إطار هذا الصراع. خاصة واننا كنا منذ البداية أمام استخدامات سياسية لمصطلح «الارهاب»، فالمادتان الثانية والثالثة من قانون مكافحة الارهاب رقم 13 لسنة 2005 يكاد يشمل كل شيء تحت مصطلح «الأفعال الارهابية» أو «جرائم أمن الدولة». هكذا وجدنا الخطاب الرسمي يتعامل مع بعض الفعاليات السياسية أو الميليشيات المسلحة التي كانت تقوم بالأفعال الواردة في المادتين السابقين نفسها على أنهم «خارجون عن القانون» وليسوا «إرهابيين». أي في قلب القاعدة الفقهية القانونية من الركون إلى الفعل الاجرامي إلى الركون إلى القائم بهذا الفعل! بل أن قانون مكافحة الارهاب نفسه كان حرصا على عدم تعريف «الإرهاب» وانما توصيفات «للأفعال الارهابية» لا ضابط لها غير تأويل القائمين على السلطة، مثل «مشروع إرهابي» (المادة ثانيا/1)، أو «قيادة عصابة مسلحة ارهابية» (المادة ثانيا/3)، أو «بدافع ارهابي» (المادة ثانيا/6)، أو «دوافع ارهابية» (المادة ثانيا/7)، أو «التشجيع على الارهاب» (المادة ثانيا/ 8). هكذا يكون «العنف والتهديد الذي يهدف إلى القاء الرعب بين الناس أو تعريض حياتهم وحرياتهم وأمنهم للخطر وتعريض أموالهم وممتلكاتهم للتلف أيا كانت بواعثه وأعراضه يقع تنفيذا لمشروع إرهابي منظم أو فردي» مرة عملا إرهابيا، ومرة اخرى مجرد «خروج على القانون»، مع كل ما يستتبع ذلك من تمييز. وهو ما سنراه جليا في مشروع القانون!

لا يكشف مشروع قانون العفو عن فلسفة واضحة في التعاطي مع الجرائم المشمولة بالعفو، والجرائم المستثناة منه. وباستثناء المادة 4/ثانيا من القانون، المصاغة بطريقة دقيقة على عكس المواد الأخرى، وهو ما يؤكد لنا انها تمثل الغاية الرئيسية للقانون، ولا تمثل باقي المواد سوى قنابل دخان للتغطية على هذه الغاية! والغريب أن مسودة القانون لم تعمد إلى التحديد الدقيق لطبيعة الجرائم المستثناة من العفو إلا مواد محددة، فقد نصت المادة 4/ أولا وثانيا وثالثا وخامسا على استثناء الجرائم المنصوص عليها في قانون المحكمة الجنائية العراقية العليا الخاصة بمحاكمة نظام السابق؛ والجرائم المنصوص عليها في قانون مكافحة الارهاب؛ والجرائم الماسة بأمن الدولة الخارجي والداخلي؛ والجرائم الماسة بالهيئات النظامية. أي ببساطة استثناء الجرائم السياسية بالمطلق من العفو!

أما الجرائم الاخرى المستثناة من العفو فلم يتم تحددها بشكل واضح لا لبس فيه، أي تحديد الجريمة وتوصيفها القانوني الدقيق. فالمادة 4/ ثالثا على سبيل المثال استثنت «جرائم الاتجار بالمخدرات» من دون تحديد المواد القانونية التي تتعلق بهذه الحالة، وبالتالي هل المقصود هنا المخدرات حصرا ام المؤثرات العقلية الأخرى؟ واستثنت المادة 4/ رابعا «جرائم تهريب الآثار»، فهل يعني ذلك شمول الاتجار بالآثار بالعفو ما دام ليس تهريبا؟ ثم ماذا عن اتلاف الآثار أو سرقتها؟ إن افتقار هذه الجرائم من التحديد الدقيق تعكس الرغبة في التعمية من جهة، والرغبة في أن يكون التأويل حاضرا في عمل اللجنة المكلفة لتطبيق هذا القانون.

إن تحليل القانون تؤكد عدم وجود فلسفة حاكمة لمواده، وإلا لماذا تشمل جريمة الزنا مثلا بالعفو العام في حين تستثنى جريمة اللواط من ذلك؟ كما لا يمكن الوقوف على هدف المشرع عندما تشمل جرائم مثل هذه بالعفو: القتل العمد أو الشروع فيه؛ والشرف؛ والتهديد؛ والايذاء العمد؛ والسرقة المقترنة بظرف مشدد؛والتعذيب؛ وخيانة الامانة؛ والتزوير؛ والاضرار بالمال العام؛ والجرائم المخلة بواجبات الوظيفة؛ والتدخل في حرية المزادات والمناقصات؛ وفك الأختام وسرقة الاوراق والأشياء واتلافها؛ والتربح؛ والابتزاز؛ والاحتيال؛ والغش؛ وانتحال الوظائف والصفات؛ والزنا؛ والبغاء؛ والتحرش الجنسي؛ والاخبار الكاذب (المخبر الخاص)؛ وتضليل القضاء؛ وشهادة الزور؛ واليمين الكاذبة؛ والجرائم المخلة بسير العدالة!

اللافت أيضا أن مشروع القانون لم يلتفت إلى خصوصية الجرائم المتعلقة بحقوق الانسان والحريات العامة، بخاصة في ظل التزامات العراق الدولية تجاه هذه القضايا. فقد جاء في تقرير وزارة حقوق الانسان السنوي للعام 2010 أنه تم شمول أغلب رجال الشرطة والجيش والأمن المتهمين بارتكاب جرائم التعذيب ضد السجناء والموقوفين خلال الاعوام 2005 و2006 و2007 بأحكام قانون العفو، كما شهد العام 2010 غلق التحقيق في العديد من شكاوى التعذيب لعامي 2006 و2007 أيضا بسبب شمولهم بقانون العفو العام. ومن الواضح أن المشرع يعيد ارتكاب الخطأ نفسه. كما لا بد من الانتباه إلى ضرورة عدم شمول الجرائم التي يوصفها قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 بجرائم «تجاوز الموظفين حدود عملهم» في المواد 322 و324 التي تتعلق بالـ «قبض على شخص أو حبسه أو حجزه في غير الأحوال التي ينص عليها القانون»، أو الموافقة على حجز شخص «بغير أمر من سلطة مختصة» أو «امتنع عن تنفيذ أمر صادر بإطلاق سراحه أو استبقائه إلى ما بعد الأجل المحدد لتوقيفه او حجزه او حبسه». خاصة في ظل انتشار السجون غير القانونية في العراق، والاستهانة بالأحكام الصادرة عن الجهات المختصة وعدم تنفيذها.

في النهاية عندما لا يشمل قانون العفو شخصيات سياسية مثل نائب رئيس الجمهورية السابق طارق الهاشمي، أو النائب السابق أحمد العلواني، ولكنه يشمل بكل إصرار مزوري الشهادات الدراسية الذين يبلغون الآلاف لأغراض التعيين في الدولة، فبالتأكيد ثمة مشكلة بنيوية تتعلق بالدولة العراقية ككل!

(المصدر: القدس العربي 2016-08-18)



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات