الديمقراطية ليست وعظاً!
وهب أننا دولة مستقلة الإرادة، وأننا دولة حرة لا تتداعى عليها الأمم للسيطرة على مقدراتها، فهل الديمقراطية هي السبيل لإصلاح خرابنا؟ أم أن الإسلام هو الحل كما يدعي الإسلاميون؟ أم أن الاشتراكية هي أقرب لاحتياجتنا؟ أم أن نظاماً استبدادياً عسكرياً قد يلائمنا ويوافق عقولنا التي يعلوها الجهل والصدأ؟!
ودون أن تتعجل في الرد على السؤال، فعليك أن تعلم أن توافر الحلول والخيارت ليس ضماناً كافياً لصحيح الإجابة، فالإسلام (وأعنيه فكراً هنا وليس ديناً) أو الاشتراكية أو الديمقراطية وحتى الديكتاتورية لا يكفيها صحة نظريتها ولا حتى التطبيق الصحيح لضمان نجاحها، وإنما النجاح الحقيقي لها هو في قدرتها على دخول عقول ونفوس من سيتم تطبيقها عليهم، فهذه الأنظمة وبغض النظر عن صحة أو خطأ مبادئها، ليست مجرد شعارات واقتراحات تلقى هنا أو هناك، وإنما هي نظم ومبادئ أُسست لتُزرع في نفوس مُطبقيها ولتصبح دينهم (وأعني دينهم هنا بمعنى نظامهم) الذي يدينون به ويؤمنون به أيما إيمان!
وربما تنفجر هنا أزمة من أزمات العقل المسلم، والذي لا يستطيع تقبُّل فكراً خارجاً عن دينه ليدين ويؤمن به ويصبح نظاماً يسير على خطاه، وقد يرى في ذلك تعارضاً مع إسلامه، ولكنها في الحقيقة أزمة مزيفة يفتعلها عقله الذي لم يعِ ويفهم حقيقة دينه الإسلامي القادر على هضم أي نظام أو فكر عادل يؤسس للمساواة والرحمة ومحاربة الظلم والفساد، وربما كانت هذه هي أزمته الحقيقية، أزمة عقل لم يرَ في دينه الإسلامي أكثر من فكر منافس لأفكار بشرية أخرى، ولكنه في الحقيقة ليس كذلك علي الإطلاق!
إن محمداً بن عبد الله لم يُبعث واعظاً، وإنما بُعث نبياً مربياً، وهو لم يحمل في جعبته نصائح وأوامر يأمر بها الناس لينفذوها، وإنما حمل معه برنامجاً تربوياً متكاملاً لتغيير حياة الإنسان، ففكر الإسلام نفسه فكريّ فطريّ إنسانيّ، يرنو للعدل والمساواة والرحمة، وربما تشاركت معه الكثير من الأفكار الأخرى في ذات المبادئ، بل ربما كان هناك من يدعو لمثل هذا الفكر من قبل ظهور محمد النبي، ولكن ما بعث به وله محمد هو المنهج والوسيلة لتطبيق هذا الفكر، فهو -مثلاً- حينما أراد لأصحابه الصبر، لم يأمرهم به، وإنما جاء منهجه ليعلمهم إياه، ويرشدهم إلى الصوم كوسيلة من وسائله!
ولأن العقل المسلم يعاني من أزمات الكسل وهبة التفكير، فقد تعامل مع دينه كفكر ينهل من أفكاره ويأتمر بأوامره وفقط، ولم يحاول أن يراه كمنهج يمنحه من الوسائل والقدرة الكافية على التعامل مع غيره من الأفكار والنظم التي لا تناقضه، بل وتساعده على هضمها واستيعابها وإنجاحها من خلاله وفي إطاره.
ولتدرك ما أردت الوصول إليه، فلتسمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع"، ولتستطلع الآن آراء المسلمين فيه، هل يروا فيه أمراً يُؤمرون به؟! أم يروا فيها منهجاً يُرشَدُون إليه؟! ستصدمك إجابة بعضهم (العسكرية) أنه أمر علينا تنفيذه، فتراهم يأمرون أبناءهم بالصلاة لسبع، ويبقوا متربصين، حتى إن وصل أبناؤهم إلى العاشرة، فإن أهملوا في صلاتهم ضربوهم عليها، وهم بذلك لا يصنعون مسلماً، وإنما يصنعون منافقاً قد يصلي خوفاً من ضرب أبيه!
أما صحة الأمر ففي الحديث منهج يرشد به رسول الله أتباعه لتعويد النفس البشرية على الصلاة، فبرنامج تعليم الصلاة والتعود عليها يبدأ في السابعة، ويستمر لثلاث سنوات من التوجيه والتدريب، يعمل بها الآباء لتوصيل أهمية الصلاة وأهدافها وصحيح إقامتها لأبنائهم، وعند انتهاء البرنامج، ينظر في مدى التزام المتدرب (الابن) بما تدرب عليه، فإن وجد ثم تقصيراً في ذلك، كانت نفس الابن في حاجة إلى رادع يردعها بالضرب أو بأي وسيلة لتعيده إلى الطريق (والبرنامج) الصحيح! فالصلاة ليست وعظاً يقوم به الآباء، فيقبله أو يرفضه الأبناء، وإنما هي برنامج يعمل الأب على تنفيذه مع ابنه، وقد منحه الدين الوقت الكافي لفعل ذلك وليس لانتظار تنفيذ الأمر التالي، والذي هو قد يكون نتيجة فشل تنفيذ الأمر الأول!
وهذه هي عقلية المسلم التي باتت تنتظر النصر ولا تعمل له، والتي تتعامل مع دينها كوعظ يُسمع وليس كمنهج يُنفذ، فما بالك بنظام ديمقراطي قادم ليطبق عليهم؟! هل تظن أنهم قد يروا في الديمقراطية نظاماً متكاملاً يعملون عليه ليحمي الحريات ويقر العدل والمساواة ومحاربة الفساد؟! بالطبع لا، بل إنهم سيروا فيه وعظاً ينفذون آليته بأقل مجهود دون فهم أو وعي، راجين أن تجلب لهم السعادة والرخاء والغنى، فإن فشل (وهو فاشل لا محالة بتطبيق كهذا)، تركوه باحثين عن وعظ آخر أقل عملاً و تفكيراً وجهداً، ولن يجدوا ضآلتهم في أفضل من استبدادية يستسلمون لها، ويمضون بقية أعمارهم في الدعاء عليها للتخلص منها!
وفي الأصل فالديمقراطية ليست وعظاً، وليست مجرد مبادئ سامية يدندن بها الحقوقيون وأدعياء الليبرالية على آذاننا يوماً وراء يوم، وليست سحراً وعلاجاً كافياً لمشاكلنا، وليست شبحاً صعب التحقيق على شعبنا الجاهل كما يدعون، الديمقراطية مجرد برنامج تدريبي، على جميع المتدربين فيه أن يدركوا حقًّا حاجتهم إليه، وأن يمنحوا لأنفسهم الوقت الكافي لإنهائه، وأن يعملوا فيه بجد، قبل أن ينتظروا منه نتائج تتحقق أمام عيونهم، وقبل أن نعاقب شعباً كاملاً ونطعنه بالقول إنه غير مؤهل لها، وهو الذي لم يكمل عليها تدريبه في الأصل!
وخلاصة القول، إن تغيير العقلية وعلاج أمراضها وقصورها بات ضرورة لا بد منها، فليست النظم هي المشكلة وإنما من ينفذها، فلن ينفذ الديمقراطية ولا الإسلامية ولا الاشتراكية ولا أي نظام إصلاحي كان، عقولٌ لا تطيق سوى تنفيذ الأوامر والنواهي، مهما كانت متعلمة أو واعية أو على قدر كبير من الثقافة، لن ينفذها سوى عقول راغبة في التغيير ومحتاجة إليه، قادرة على العمل والتضحية من أجله، مهما كلفها الثمن والوقت، ومهما أصابها من الألم والتعب.