الذاتي والموضوعي في أسباب ما يصيب القوى الإسلامية
يرى كثيرون في الساحة الفكرية والسياسية، ومنهم إسلاميون، أن قدرا كبيرا من المشاكل والمتاعب والعثرات والانتكاسات التي تعانيها الحركات الإسلامية هو فقط “من ذات تلك الحركات وما عملته بأيديها”. ثمة حاجة إلى القول ابتداءً إن مسيرة الحركات الإسلامية المعاصرة لم تكن مجرد عثرات وانتكاسات، بل إن هناك الكثير من النجاحات التي تحققت. ونذكّر هنا بأن نشأة تلك الحركات لم تكن في أجواء مساندة بقدر ما كانت في ظل أوضاع غُيّب فيها الإسلام عن شعوبه ومجتمعاته على نحو غير مسبوق، حيث عانى ما يمكن وصفه بالغربة لردح من الزمن قبل أن يبدأ الدعاة أفرادا ومجموعات سيرهم نحو إعادة الاعتبار لتعاليمه في حياة الناس. والحال أن قدرا لا بأس به من النجاح قد تحقق على هذا الصعيد شمل ما يمكن اعتباره سيادة معقولة لروح الدين بين الناس وترسيخا لمقولة ضرورة إعادته إلى حياتهم في مختلف مجالاتها، وهو الأمر الذي لم يتحقق بيسر وسهولة، بل بكم هائل من الجهود والتضحيات. وذلك من دون اغفال الدور العفوي من قبل الناس بالعودة إلى التدين مما ملأ المساجد وأعطى للصحوة الإسلامية زخما جماهيريا واسعا. إن السياسة لا تمثل إلا وجها واحدا من حركة الدعاة بالإسلام وللإسلام، إذ ثمة وجوه أخرى كثيرة قد شكلت معالم التحرك، وتحقق على صعيدها الكثير من النجاح كما أشير سابقا. نأتي هنا إلى مسألة الذاتي والموضوعي في صناعة “العثرات والانتكاسات”، ففي الوقت الذي لا يختلف فيه الناس على توفر بعد ذاتي في صناعتها، حيث من السهل على أي أحد سرد الكثير من الأخطاء، إلا أن من الضروري القول بالمقابل إن الكثير من تلك الأخطاء لم تكن إلا نتاجا لاجتهادات بدت لأصحابها معقولة ضمن موازين قوى محددة، ومعها ما يتصل بظروف الزمان والمكان، ثم تبين لاحقا أنها لم تقرأ تلك الموازين والظروف على نحو دقيق. غير أن الأهم من البعد الذاتي في صناعة “العثرات والانتكاسات” هو الموضوعي الذي تم تجاهله أو حشره في خانة ضيقة لا تقارن بالذاتي الذي يأخذ مكان الأصل أو السبب الجوهري. لقد نشأت الحركات الإسلامية في ظل واقع تكرّست فيه الدولة القُطرية، بوجهها العلماني أو الآخر الاشتراكي، ثم تطور فيها البعد المركزي والأمني. وكان ذلك نتاجا لخلل هائل في ميزان القوى بين الغرب الاستعماري والعالم العربي والإسلامي أفرز هزائم وتبعية على مختلف الصعد، وبذلك أصبح تغييب الإسلام خيارا مفروضا من الخارج ومحروسا من الداخل؛ من الخارج لأن الغرب يريد ذلك خوفا مما يزرعه الإسلام من عناصر الوحدة والعزة والقوة في الأمة، ومن الداخل لأن الأنظمة القُطرية لا تريد مخالفة الخارج تجنبا لسخطه، فيما تتوجس من حملة الإسلام ودعوتهم للعدل الاجتماعي خوفا على مصالحها. من هنا كان الميزان مختلا لصالح الدولة القُطرية في مواجهة حركات لا سند لها من الخارج، فيما لا تملك من القوة ما تواجه الدولة الأمنية بإمكاناتها الكبيرة. والحال أنه لولا قوة الفكرة التي تحملها القوى الإسلامية وصلتها العميقة بضمير الأمة لاندثرت منذ زمن بفعل قوة خصومها المادية قياسا بها. ولعل مثال الحركات اليسارية والقومية يشكل دليلا مهما على هذه المعادلة. إن تجاهل ميزان القوى الدولي في قراءة تاريخ حركات التغيير لا يبدو منطقيا حتى في سياق قراءة تاريخ الدعوة الإسلامية في بداياتها الأولى مع النبي صلى الله عليه وسلم، فالله عز وجل جعلها في الظرف المكاني المناسب؛ والزماني أيضا. فقد جاء النبي عليه الصلاة والسلام بعد حرب كونية بين القطبين الأعظم (الفرس والروم) تفوق فيها الطرف الأول، وما هي إلا سنوات قليلة حتى عاد الثاني وهزم الأول ليغدو العملاقان في حالة ضعف غير مسبوقة. وقد عبر المؤرخ المعروف (غوستاف لوبون) في كتابه (حضارة العرب) عن ذلك بالقول “ولد محمد في أحسن الأوقات. وقد رأينا أن العالم المسنّ كان متصدعا من كل جانب، ولم يتوجب على أتباع محمد إلا أن يهزّوه ليتساقط”. من هنا، يمكن القول إن من الظلم أن يقوم بعض الإسلاميين بجلد تجاربهم والتركيز على النصف الفارغ من كأسها دون الآخر الملآن، فالذاتي حاضر في عثراتها وانتكاساتها . . نعم، ولكن الموضوعي أكثر حضورا، مع تباين مستوى ذلك الحضور بين تجربة وأخرى. هذا الكلام يبدو مختلفا بقدر ما في حالة الحركات (غير الدعوية والرافضة للعمل السياسي السلمي)، والتي يبدو سوء التقدير والفهم الخاطئ لمعادلة الهزيمة والانتصار سببا أكثر وضوحا في عثراتها، مع أن ميزان القوى الخارجي هو ما فرض الهزائم أيضا، حيث خاضت بعضها معارك في ظل ميزان قوىً مختل تماما، لم يكن بوسع الإرادة أو الإيمان وحدها أن تكسره، لأن القرآن لم يقل ذلك أصلا.. “إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين”.. هذا في أفضل الأحوال، ثم “مئة صابرة يغلبوا مئتين”، في الحالة العادية. وفي هذا السياق تفصيل طويل في ماهية ميزان القوى وتغيره في ظل التكنولوجيا الحديثة، فضلا عن الفروق بين حروب الجيوش، وبين حروب المقاومة ضد محتلين، أو ما يعرف بحروب العصابات.
(الدستور 2016-09-06 )