تراجعات «داعش» ودلالاتها وما بعدها
لم يكن بوسع قيادة تنظيم داعش أن تتجاهل ما منيت به من تراجعات وهزائم خلال العام الحالي والماضي، فكان أن اضطرت إلى بث إصدار بعنوان “وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا”، اعترفت فيه بما وقع من تراجعات، وقدّمت تبريرات، لكنها أصرت على أن النصر قادم لا محالة، وشبّهت وعدها بفتح روما، بوعد النبي عليه الصلاة والسلام لسراقة بن مالك بسواري كسرى. لمسيرة التنظيم محطات عدة؛ الأولى تلك التي بدأت بـ”التوحيد الجهاد”، ثم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين، وصولا إلى الدولة الإسلامية في العراق، ومن ثم فقدانها، وانتهاء بالمحطات الأخيرة المتوالية بعد عودتها من جديد والتمدد إلى الموصل ومن ثم إلى سوريا وإعلان “الدولة الإسلامية في العراق والشام”. في كل تلك المحطات التي انطوت على سيطرة “بشبه دولة”، كانت النتيجة النهائية بالنسبة إلينا واضحة، فيما كانت غير ذلك بالنسبة لقادة التنظيم ومؤيديه، ممن يعتقدون أن إرادة الإيمان تكفي لتحقيق النصر مهما بلغ خلل ميزان القوى مع العدو؛ في قراءة خاطئة للسيرة والنصوص وتجارب التاريخ، تأخذ بعضها وتترك آخر مثل (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبون مئتين.. الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا.. فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين)، يشترك معهم فيها أكثر الإسلاميين ممن خاضوا مواجهات مشابهة كانت نتيجتها محسومة لذات السبب، كحال مواجهة الإخوان المسلمين للنظام السوري مطلع الثمانينات، ومواجهات مصر (الجماعة والجهاد)، ومواجهة الجزائر الشهيرة وسواها. قلنا مرارا إن تنظيما يعاديه العالم أجمع (في زمن العولمة والتكنولوجيا وثورة المواصلات والاتصالات وليس زمن الخيل) لا يمكن أن ينتصر ويحافظ على انتصاره، حتى لو حظي بدعم شعبي إسلامي، فكيف وهو لم يكن كذلك، حيث عادى، حتى من ينتمون إلى مدرسته الفكرية ذاتها (السلفية الجهادية). في حالات من هذا النوع، يمكن للإرادة ومعها بعض الظروف الموضوعية أن تصنع انتصارا ما، ثم صمودا لزمن يطول أو يقصر، لكن النتيجة النهائية ستكون مختلفة في ظل ميزان قوىً نتساهل إذ نقول إنه مختل فقط، لأن المقارنة هنا تبدو عبثية بين قوىً مدججة بأعتى الأسلحة والتنكولوجيا، وبعضها بالأيديولوجيا أيضا، وبين تنظيم محاصر ومعزول، وإن ملك عناصره القوة المعنوية. حالات المقاومة ضد محتلين غرباء (حروب العصابات) تختلف عن مواجهات الجيوش والدول، بدليل أن التنظيم سجل إنجازا ومعه فصائل المقاومة العراقية بإفشال الغزو الأمريكي، لكنه ما لبث أن خسر “دولته” في الأنبار بعد ذلك حين وقع البلد بيد حلفاء إيران وبدعم أمريكا، قبل أن تبدأ جولة جديدة بعد 2011، حين رد المالكي على انحياز العرب السنّة للعملية السياسية بالطائفية والإقصاء. حركة طالبان لم يكن ينقصها الإيمان حين هُزمت أمام الأمريكان في 2001، يوم كانت دولة تواجه طيرانا من الجو، وقوىً معادية من الأرض، لكنها صمدت ولا تزال كقوة مقاومة ضد احتلال تستنزفه بحرب عصابات. اليوم يفقد تنظيم داعش مساحاته المكانية تباعا، رغم شراسة مقاومته، والسبب هو تفوق رهيب في الجو، ووجود قوىً زاحفة على الأرض، مع تجاهل العدو لمصير السكان والمناطق المستهدفة. هل يعني ذلك أن القصة على وشك النهاية؟ كلا، فالتنظيم نشأ نتاجا لظروف موضوعية، ولا قيمة للكلام الذي ينسب صناعته لهذا الطرف أو ذاك. نشأ نتاج حاجة لمواجهة غزو لبلد عربي مهم، ثم تراجع، ثم عاد من جديد حين لم يجد العرب السنّة ملاذا سوى السلاح ردا على عنف المالكي، وتمدد لسوريا في ظل دموية بشار، وهو بفقدانه للمكان يغدو أكثر خطورة ما دامت الظروف الموضوعية التي أنتجته، أو التي أعادته إلى قوته من جديد قائمة، وهي هنا مظالم العرب السنّة في العراق، ومظالم الأكثرية السنيّة في سوريا، فضلا عن استمرار النزاعات في اليمن وليبيا ومناطق أخرى.
(الدستور 2016-09-10)