الأمويون الغائبون الحاضرون
تذكرت اليوم قصة جميلة قرأتها قبل خمس وعشرين سنة في كتاب إصلاح المال تحقيق الدكتور مصطفى القضاة، وعدت الى الكتاب مرة أخرى وأدهشني أمران: عدد الكتب الكثيرة جدا التي ألفها ابن ابي الدنيا وأورد الدكتور مصطفى قائمة بها وهي تزيد على المائتي كتاب، لكن المدهش أكثر أن المؤلف أموي ولد في بغداد في عهد الخليفة المأمون (القرن الثالث الهجري) ويجاهر بأمويته، بل يبدو من الكتاب واضحا أنه ينتمي إلى مذهب أموي له رواته وعلماؤه الأمويون جميعهم، وله مؤلفات في فضائل الأمويين وأخبارهم... وهذا يرد قصص العداوة والبغضاء بين الأمويين والعباسيين ولعلها كانت عابرة قصيرة ثم انتهت، ومن الواضح أن الأمويين ظلوا تيارا سياسيا ودينيا لمئات السنين بعد انتهاء دولتهم.
وقد مرّ النسائي (نسبة إلى بلدة نسا القائمة اليوم في أفغانستان رحل إلى مصر واستوطنها) المحدث المشهور في القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي بدمشق في طريقه الى الحج فاجتمع الناس حوله في المسجد الِأموي يحدثهم، ولكنه ذم معاوية في حديثه، فضربه المصلون حتى مات بعد فترة قصيرة في مدينة الرملة بسبب ذلك! ويعد النسائي سنّيا، ولكنه منحاز سياسيا وعاطفيا إلى عليّ بن أبي طالب، ويبدو أن التشيع حتى ذلك الوقت كان يغلب عليه الطابع السياسي ولم يكن قد تبلور بعد كمذهب ديني مختلف.
ومن ذرية الخليقة الأموي مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية أبو الفرج الأصبهاني مؤلف كتاب الأغاني، توفي في منتصف القرن الرابع الهجري/ 967م، وقد كان شيعيا!! ولكنه كان في الوقت نفسه على صلة قوية بحكام الأندلس الأمويين وكانوا يجزلون له العطاء!
لم يعد للأمويين شيعة ولا عشائر تنتسب إليهم! برغم شرفهم العظيم ودولتهم الرائعة في دمشق والاندلس، واختفى الامويون نسبا ومذهبا، وبقي فضلهم العظيم على الحضارة العربية والإسلامية، فقد أسسوا للعلم والترجمة والبحث والتقدم، ولكن لم يطل بهم الوقت فورثهم العباسيون، وكانوا هم المؤسسين لما مضى به أبناء عمهم، ثم أنشأوا في الأندلس دولة رائعة مدهشة.
وقد اخبرني د. عبد الكريم غرايبة أن مراسلات شارلمان ملك فرنسا مع هاورن الرشيد والحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك، ملك الأندلس وحفيد عبر الرحمن الداخل صقر قريش، كانت تصف الخليفة العباسي بملك الفرس، والخليفة الاندلسي بملك العرب! وأظنه وصف صحيح!
كان الأمويون عربا يرون أنفسهم عربا ويتعصبون لذلك ويذمون الحركات الشعوبية والعباسية التي كانت أخبارها تنتشر منذ أيام الأمويين بأن دينهم أن يقتل العرب، وكان الصراع في حقيقته وجوهره جيوسياسيا، ليس أكثر من امتداد لصراع البيزنطيين الذين صاروا يسمون الأمويين والفرس الذين صاروا يسمون العباسيين. وأعتقد أنه من المهم جدا ملاحظة ذلك في فهم الصراعات الداخلية والاقليمية القائمة اليوم في الشرق العربي حتى لا يستدرجنا الغلاف الديني الرقيق لهذه الصراعات بعيدا عن فهمها وإدارتها.
يقول الشاعر العربي نصر بن سيار الليثي (ت 131 ه قبل نهاية الامويين بعام واحد) محذرا الأمويين مما يجري في بلاد فارس
أبلغ يزيداً وخير القول أصدقه وقد تيقنت ألا خير في الكذب
بأن أرض خراسانٍ رأيت بها بيضا إذا أفرخت حدثت بالعجب
فراخ عامين إلا أنها كبرت لمّا يطرن وقد سربلن بالزغب
فإن يطرن ولم يُحتل لهن بها يلهبن نيران حرب أيّما لهب
قوم يدينون ديناً ما سمعت به عن الرسول ولا جاءت به الكتبُ
فمَنْ يكن سائلي عن أصل دينهم فإن دينهم أن تُقتلَ العربُ
(المصدر: الغد 2016-09-21 )