الآيفون .. ثمرة المرض
تمنيت كثيراً أن أمتلك جهاز آيفون، لا لشيء إلا لأن آيفون جهاز يعطيك طابعاً مميزاً من وجهة نظرك، حتى وإن لم يكن المثل في نظر الآخرين كل يوم عند عودتي من عملي أقف أمام أحد محلات بيع الأجهزة المحمولة وأطيل النظر إليه وأرجع بيتي خالي الوفاض لا أتذكر منه إلا تلك التفاحة والقضمة على جانبها، والتي كان سرها فقط هو خوف ستيف جوبز من أن لا يفرق بينها وبين حبة الطماطم، فوضع على الشعار تلك القضمة لتوضيح أنها تفاحة فقط.
تمر أيامي متشابهة نظرات أختلسها وأرجع خالي الوفاض دائماً حتى فاجأني صاحب المحل يوماً بسؤاله هل يعجبك؟ فأجبت بالطبع يعجبني، وما يعجبني أكثر أن ستيف جوبز ابتكره بعد ثلاثة أعوام من اكتشاف مرضه، ومع كل ما عاناه لم يثنِه عن إخراج تحفة أخرى لنا، وهي المتمثلة أمامك الآن..
لعل تلك النقطة بالتحديد هي ما تجعل الأيفون أعجوبة في نظري أنه خرج من رحم معاناة طويلة ومن قام على تطويره كان ينتظر الموت كل يوم ومع كل ذلك لم يثنِه عن إكمال عمله وإتقانه، والغريب أيضاً أن بعد إطلاقه بثلاث سنوات أطلق جوبز أيضاً الآيباد ليضع آخر لمسة له في عالم التكنولوجيا ويرحل بعدها بأقل من سنة في هدوء تام بعدما ملأ الدنيا كلها بصخب إنجازاته..
فالآيفون لا يتمثل فقط في الجهاز المعروض في محلك بل في الفكرة نفسها التي جعلت من رجل على مشارف الموت يصنع تحفة فنية كتلك..
ضحك ذلك الرجل وقال جميل أن تملك المعرفة ولكن الأجمل أن تجمع ثمن ذلك الجهاز. ضحكت من رده كثيراً إذ كان جوبز نفسه لا يملك أي مال من قبل بالعكس فمن الأشياء التي كان يفتخر بها أمام طلبة جامعة ستانفورد في خطابه الشهير في عام 2005 أنه في فترة الجامعة كان يسير أكثر من سبعة أميال ليجد وجبة مجانية في معبد هندوسي يقتات عليها فندرة المال في فترة ما من فترات حياتك ليس بسبب وجيه بأن تحيا حياتك كلها بلا مال، بالعكس هو أمر ضروري لتعرف قيمة المال بعد ذلك.
كانت ضحكاتنا متبادلة بالرغم من جدية حديثي إلا أنه أردف قائلاً بالنسبة لي تلك الكلمات محض هراء لا أكثر يتشدق بها كل مفلس. لم أتعجب لكلماته بقدر تعجبي من الفكرة المسيطرة عليه وأن المادة قبل أي شيء، ولا عجب في ذلك إذ إن كنت صاحب حلم ما، لن يصدقه أحد ما لم يكن واقعاً ملموساً أمامهم، فكيف لي أن أشرح له أن امتلاك الفكرة يتساوى مع امتلاك المادة أيضاً فكلاهما مهم ولا ينبغي أن يزيد اهتمامك بطرف دون الآخر فما معني امتلاكك للمادة دونما أي علم بكيفية استثمارها أو حتى تحويلها لشيء مفيد يفيدك ويفيد غيرك؟
أحسست أن الأمور بدأت تتفلت من بين أيدينا فبادرته بالسؤال: من الأفضل من وجهة نظرك ستيف جوبز أم بيل جيتس؟
فأجاب بسرعة فائقة بيل جيتس طبعاً
فبادرته بالقول ولمَ بيل جيتس؟
قال لأنه من صنع الويندوز وقيمة شركته أعلى من قيمة شركة آبل؟
فضحكت وقلت له إن شركة آبل تتعدى قيمتها السبعمائة مليار دولار فيما أن قيمة مايكروسوفت السوقية ثلاثمائة وخمسون مليار دولار فقط!
أي النصف تقريباً ولولا وجود ستيف جوبز ما كان للويندوز أن يكون موجوداً، فالأمر كله يرجع في النهاية إلى حلم من أحلام ستيف جوبز أن يصل الكمبيوتر إلى كل منزل بدلاً من تلك الأجهزة العملاقة التي لا يسعها مكان صغير ومن هنا بدأ هو وصديق له العمل على تصنيع جهاز منزلي ليس بالشكل الذي نراه الآن ولكن كان مثالاً مبسطاً لجهاز صغير وبدأ تطويره فيما بعد حتى وصل إلى ما يسمي الماكنتوش كانت الميزة فيه أنه بفأرة وواجهة رسومية لا تحتاج أن تكتب أي أكواد ومن هنا كانت بادرة الفكرة لنظام الويندوز، فبدلاً من شراء الجهاز نفسه يمكنك شراء نسخة في أسطوانة مدمجة تعطيك كل الواجهات الرسومية التي تحتاجها دون أن تشتري الماكنتوش وتلك التي اعتبرها ستيف جوبز خيانة من بيل جيتس نفسه لأنه سرق الفكرة من أجهزة ماكينتوش، حيث كان بيل جيتس يعمل مع جوبز في تطوير أجهزة الماكنتوش واستمر الخلاف بينهما طويلاً حتى تصالحا بعد ذلك وتمت الشراكة بينهما من جديد.
فليس من السهل أبداً أن تتصالح مع من كان سبباً في طردك من شركتك وتحطيم حياتك من قبل، فمع تزايد مبيعات الويندوز قلت مبيعات الماكينتوش، الأمر الذي أدى بدوره إلى إقالة جوبز من آبل ليبدأ مشروعاً جديداً من البداية وينجح أيضاً ليعود بجدارة إلى قيادة آبل من جديد فإنه يحمل الفكرة وحامل الفكرة لا ينكسر بسهولة ولطالما سمعت عن أصحاب مال أفلسوا وقل ما سمعت عن صاحب فكرة أفلس.
اعتذرت للرجل عن إطالتي في الحديث وهممت بالخروج وشتان ما بين دخولي وخروجي، فكم منا يمتلك الجهاز وكم منا يفتقد الفكرة فرجل تنصل منه والداه وقاسى ما قاساه في شبابه تمر به الأيام ليصبح أيقونة من أيقونات حياتنا وسبباً مباشراً أو غير مباشر في تطوير حياتنا وظروف نشأته وبداياته كانت أقل بكثير من الكثير منا، فالظروف بالتأكيد قد تكون عائقاً لبعض الوقت ولكنها لن تكون عائقاً طوال الوقت.
لعل انتقادنا لظروفنا الحالية وأوضاعنا غير المستقرة لا يغنينا أبداً أن نحفز أنفسنا ولو بأمل بسيط وسط كل هذا الكم من البؤس.
تذكر دائماً أن هناك أمل حتى لو كان بينك وبين الموت يوم واحد.
نسيت أن أذكر لك أن جوبز كان تلميذاً فاشلاً ولم يكمل دراسته الجامعية، كل ما كان يملكه هو حبه للإلكترونيات ومن قام بالتطوير معه صديق مقرب له جداً يسمي ستيف وازنياك، ومن قام بالتسويق للماكنتوش كان جون سكالي، ولكن يظل جوبز البطل الأول والأخير لإيمانه الكامل بما يفعله وما يحبه وعاش حياته كلها مدافعاً عنه..
لذا كل ما أتمناه أن نحيا بفكرة ولفكرة..
ولا نحيا ونموت للاشيء...