وآخرون بقوا ولم يفروا
ما أصعب أن تحبس أنفاسك على وقع قصف، تريد بعدها أن تتبين ما بقي من أنفاس الناس حياً لتشد من أزره وتساعده ليعود للحياة - على ألمها - من جديد، تتساءل: كيف لكوابيس الجحيم أن تأتينا وأعيننا مفتوحة وفي وسط النهار، لا يمكن للإنسان أن ينام بأعين مفتوحة، لكن العرب، لا أستثني أحداً، هم تلك الأمة الوحيدة التي تستطيع النوم بأعين مفتوحة، ترى ولا تدرك، وتدرك ولا تتحرك، وإن تحركت تثاقلت حركة قدميها السمينتين التي تحمل أعباء وملهيات سخيفة
لكن الذين رأوا الدمار والقصف عن قرب جافى النوم أعينهم، لأنهم ينتظرون في تساؤل متى يعود القصف التالي، ومن يأخذ يا ترى هذه المرة، ألم يكتفِ ويشبع من كل من ابتلعهم في تلك السنين الخمس؟ أوه متى تحل رحمة الله بنا.
كثيرون فروا يوم زحف النظام البائد معلناً حرباً ضروساً على شعبه، وهم معذورون بالمناسبة، لأنهم خُيروا بين خيارين، البقاء في دورهم التي يحيلها القصف قبوراً، أو الفرار أُسارى في أيد الغرباء، ويعلم الله وحده إلى أي حد ستكون أيادي الغرباء رحيمة وسخية، لكنها في كل حال ستكون أرحم من يد ابن البلد، الذي أكل لحمها ورمانا بالعظام والفوسفور والقنابل العنقودية، لكنها ستظل يدا غريبة. "الآخرون هم الجحيم"، لكن ماذا يكون جحيمهم بجوار جحيم الأسد،.
الآخرون هم الغرباء الذين أطعموا الطغاة، واليوم يأنفون من استقبال لاجئينا، ولسان حال اللاجئين: "ما أردنا إلا حياة كالحياة"، حياة تغمرها الحرية، هل بالغنا في الطلب لتبالغوا في الصدود؟
لكن القاعدين هنا فضلهم الله على اللاجئين درجات، لأن اللاجئ على الأقل بات يملك حرية نفسه وعيشه ما لم يضيّق عليه البلد المضيف في ذلك، أما القاعدون فهم محاصرون إلا من طائرات الاستطلاع تقذف جحيمها ونارها عليهم من فوق، علهم يتوبون عن الحرية، وهم لغير الله لم يركعوا، ولم يتكئوا بعكاز ثورتهم المتين إلا على الله الذي لا أحد لهم غيره، وباتت أنفسهم حرة وكل من يراهم ولا يمد يداً لهم جبان، يداً تعينهم على ظالمهم، لا تعطي للظالم رصاصة يخلع بها قلب أم رؤوم، بأن يرديها قتيلة أو يصيبها في بنيها.
لأن الذين بقوا، اختار أصعب الصعبين، لأنهم ثبتوا، وما هانوا، ولا ضعفوا، فهم أفضل، والمفاضلة هنا متعمدة لإعلاء شأنهم، فهم وحدهم المقاتلون، في حين يتسكع السياسيون في حانات الأمم المتحدة، وفنادقها، ومراقصها وقيعانها لا أقول قاعاتها. قاتل أهل الأرض الثابتين فيها، انتصروا حيناً رغم حياء عدتهم التي ملكوها، ورغم ارتقاء الزهور إلى ربها كل يوم، رغم الآه في أعينهم، والدمعة التي تحبسها دعوة بنصر مكين، وتوكل على الله العلي، في أن أمد هذه الحرب وإن طال، فالله قادر على حسمه، دون أن تتدخل أمنا العمياء، الأمم المتحدة.
للذين بقوا منا السلام، للمعتقلين في سجون الطغاة منا ألف سلام، وإلى الذين ارتقوا إلى ربهم منهم، ألف ألف سلام، من حمزة الخطيب زهرة الثورة السورية التي قطفها الحقد وهي لما تنضج بعد ولما تشبع من الحرية الوليدة بعد، وحتى آخر زهرة ترتقي إلى ربها، لعل الزهور تطرح في بلاد الشام حرية بقدر ما قطفوا منها أرواحاً. وقد قطفوا منها - لعنهم الله الكثير، فسلام على من بقي، وآثر أن يصرخ في أرضه، ولم يلجأ إلى جحيم الآخرين الذين لو صرخ فيهم صارخ ما أسمعهم، ولو أسمعهم لما تحركوا.