صفـقــة الغــاز مـن زاويـة أخــرى
سيجادل أنصار صفقة استجرار “الغاز الإسرائيلي” إلى الأردن، بأنها صفقة اقتصادية مربحة ومريحة، فالأردن سيحصل على الغاز بأسعار تفضيلية (لا نعرف إلى أي حد)، ومن مصادر قريبة (أقل من 100 كيلومتر)، وعبر أنابيب لا نعرف من سينشئها وكم ستكلف ومن سيدفع الكلفة، لتكون الخلاصة أن قطاع الطاقة في الأردن، سيشهد استقراراً نسبياً بعد أن عانى من الهجمات المتكررة على أنبوب الغاز المصري في سيناء، وبعد فترة من اضطراب أسعار الطاقة وارتفاعها، قبل أن تشهد هبوطاً استثنائياً في العامين الأخيرين.
اما خصوم الصفقة، فيتناولون المسألة من منظور سياسي مناهض للتطبيع ومقاوم له، والحقيقة أنه بعد انسداد أفق مختلف أشكال المقاومة، باتت المقاطعة ومحاربة التطبيع، السلاح الأمضى في أيدي الفلسطينيين ومن تبقى من العرب الذين ما زالوا يؤمنون بـ “مركزية القضية”، هنا تبدو المقاربة سياسية بامتياز، وهناك تبدو اقتصادية بامتياز، وكلتا القراءتين بحاجة لقراءة تدمج البعد السياسي بالاقتصادي، والتكتيكي الآني، بالاستراتيجي المستقبلي، لكي تكتمل الصورة ويتضح المشهد.
على الحكومة أن تصدر وثيقة حقائق، أو كتابا أبيض”، تشرح فيه لماذا اختارت المزود الإسرائيلي للحصول على الغاز، وما هي الأثمان التي كان سيتعين علينا دفعها لو استجررنا الغاز من مصادر أخرى ... الشفافية هنا، بالغة الأهمية، والحوار مع الرأي العام اليوم، وغداً من “نواب الأمة” ضروري لخلق توافق يدعم موقف الحكومة ويعزز الاستقرار ... أما اللجوء للتعتيم والتورية والتمويه، فمن شأنه أن يزيد الأمر تعقيداً، وأن يجعل مهمة الحكومة في إقناع شعبها بصوابية خيارها، عملاً شديد الصعوبة.
المعارضون للصفقة، والمعارضة عموماً، باتت بحاجة لتطوير أدواتها ... لا ينبغي الاكتفاء بالشعار السياسي، ويتعين على النشطاء حملة مقاومة التطبيع و”نفط العدو احتلال”، أن يدعموا موقفهم بقراءات مستقلة، حتى وإن اقتضى الأمر، الاستعانة بخبراء مختصين لمختلف الخيارات والبدائل، فمن شأن ذلك أن يعزز مواقع هؤلاء ومواقفهم في الجدل الوطني العام، وأن يؤسس لتجربة في العمل السياسي والحزبي الأردني، تقوم على الحقائق والمعطيات الصلبة، لا على الشعارات والعواطف وتسجيل المواقف، على أهميتها.
أهم ما يثير القلق في امر صفقة الغاز، أننا كمراقبين ومحللين سياسيين، نتوقع أن تسلك العلاقات الأردنية – الإسرائيلية في السنوات القادمة، طريقاً صعباً ومعقداً ... إسرائيل ماضية في التدمير المنهجي والمنظم لـ “حل الدولتين”، و”العاصمة الأبدية الموحدة” تخضع لأوسع حملات التهويد والأسرلة، والمقدسات الإسلامية والمسيحية فيها، تبدو عرضة للانتهاكات والاعتداءات اليومية المنظمة، والرعاية الهاشمية للأقصى والمقدسات، تتعرض لأصعب اختباراتها، وقادمات الأيام حبلى بأسوأ السيناريوهات لا أحسنها.
هنا من حق النخبة والرأي العام أن يتساءلا: إذا كانت الحال ستسير على هذا المنوال، فما الذي يدفع حكوماتنا العديدة، لتكريس “الاعتمادية” الأردنية على الاحتلال في مشاريع ذات طبيعة استراتيجية كالطاقة والمياه (قناة البحرين)، وكيف ستكون قدرتنا على مواجهة التحديات والتهديدات الإسرائيلية، إن كنا على هذه الدرجة من التشابك والتداخل في المصالح ... وما الرسالة التي سنبعث بها لدولة الاحتلال والاستيطان والتهويد، ونحن نمضي هذه الاتفاقات ونمضي في طريق تطبيعي استراتيجي معها؟
مسار العلاقة مع إسرائيل في بعده السياسي ينبئ بشتى الاحتمالات وأخطرها على الإطلاق، خصوصاً على خطوط التماس حول الأقصى والمقدسات والرعاية ... فيما مسار العلاقة في بعده الاقتصادي، ينمو ويتعزز باستمرار، فهل ثمة عاقل يمكن أن يقبل نظرية “فصل المسارين” وتفادي تلازمهما .... وهل من مصلحة الأردن، دع عنك فلسطين وقضية شعبها المركزية، أن نذهب بعيداً في تكريس ارتباط اقتصادي استراتيجي، فيما نحن مقبلون على مواجهات سياسية ودبلوماسية حادة مع سياسات الأسرة والتهويد والتوسع والضم والاستيطان؟
مثل هذه الإشارات المتناقضة، تبقينا أمام واحد من استنتاجين: إما أننا نمارس العمل السياسي، واستتباعاً الاقتصادي، بنظام “المياومة”، وبحثاً عن حلول آنية لمشاكل استراتيجية ... وإما أننا بدأنا نجنح لخيار “التعامل مع الأمر الواقع الذي تفرضه إسرائيل على الأرض” ... إسرائيل فهمت الرسالة في ظني، وهي مطمئنة لاستمرار علاقاتنا الطبيعية أو فوق الطبيعية معها، في مختلف الظروف وأياً كانت التطورات الميدانية على الأرض، فلماذا تقلق ولماذا تحسب حسابنا.
(الدستور2016-10-03)