التداول السلمي للسلطة.. ضرورة لمجتمعات مزدهرة وحداثية
جرى مؤخراً حادثتان لطيفتان في بلدين مختلفين، أحدهما إسلامي، والآخر غربي، وللأسف كلاهما ليس دولة عربية، والبلدان هما تركيا وبريطانيا على التوالي، أما ما جرى ففي تركيا، تنحى رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو عن السلطة، واختار حزب العدالة والتنمية الحاكم - الفائز في الانتخابات العامة بأكبر عدد من أصوات الناخبين - بن علي يلدرم خلفاً له في رئاسة الوزراء، أما في بريطانيا فقد تكرر الأمر ذاته فتنحى رئيس الوزراء ديفيد كاميرون عن السلطة، واختار حزب المحافظين الحاكم - الفائز في الانتخابات العامة بأكبر عدد من أصوات الناخبين - تيريزا ماي خلفاً له في رئاسة الوزراء.
اللافت في كلتا الحالتين، أن كلا الشعبين التركي والبريطاني على التوالي لم يكن لهما رأي أو قرار في اختيار كلا الرئيسين بشكل مباشر، وإنما كان اختيارهما حصراً على أعضاء حزبيهما، فهل ما حصل يحسب كوصاية على الشعوب؟ وهل هو استبداد؟ أم ممارسة ديمقراطية؟
قبل الإجابة عن هذه الأسئلة المشروعة، يجدر الإشارة إلى أن كلا البلدين تركيا وبريطانيا على التوالي، وإن استثنينا محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في تركيا أخيراً، فإن الديمقراطية متجذرة فيهما، حيث في تركيا تشكل الحكومات بناء على الحزب الذي يحصل على أكبر عدد من أصوات الناخبين، وكذلك الحال بالنسبة لمنصب رئيس الدولة، فيتم انتخابه مباشرة من الشعب، إضافة إلى انتخاب المجالس البلدية والمحلية، ويتكرر الأمر تماماً في بريطانيا، إلا أنه لا يوجد منصب رئيس الدولة، حيث نظام الحكم يختلف بوجود الملكة، والتي هي منصب شرفي أكثر منه تنفيذياً في إدارة الدولة، بل إن ما يزيد ويؤكد تجذر الديمقراطية في بريطانيا هو ما حصل أخيراً من استفتاء الشعب حول بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، وهو الذي على أثره تنحى رئيس الوزراء ديفيد كاميرون.
ربما صحيح أن نتيجة الاستفتاء في بريطانيا كانت مخيبة للآمال، ولم ترضِ الحزب الحاكم والرئيس كاميرون، لكن ما الذي فعله كاميرون بعد الاستفتاء؟ قال: "نثق في الشعب البريطاني، ونحترم إرادته"، ثم قدم استقالته لافتاً لحاجة المرحلة إلى حكومة جديدة، وهذا ما نفتقده في بلادنا العربية، أي الثقة في الشعوب واحترام إرادتها وخياراتها بعيداً عن سياسة الوصاية والاستعلاء.
عطفاً على الأسئلة السابقة التي لم تتم الإجابة عنها، نعم إن ما حصل من اختيار الحزبين في كلتا الدولتين لمنصب رئيس الوزراء دون الرجوع للشعب مباشرة هو ممارسة ديمقراطية، حيث يعتبر اختيار هذين الرئيسين تم بموافقة الشعبين ضمنياً، فعندما اختار الشعب التركي حزب العدالة والتنمية وصوّت له لم يفعل ذلك لشخص أو لآخر، وإنما اختار الحزب لإيمانه بقدرته، ولثقته في برنامجه في تمثيل الشعب في السلطة، ومواقع المسؤولية للنهوض في البلد ولتحسين معيشة المواطنين، ونفس الكلام ينطبق على حزب المحافظين في بريطانيا.
إن من مصلحة كلا الحزبين العدالة والتنمية في تركيا وحزب المحافظين في بريطانيا اختيار أفضل الأفراد إنتاجية وكفاءة لتبوؤ المناصب، من أجل تحقيق البرامج التي انتخبوا من أجل تنفيذها؛ لأن أي تقصير يعني على الأغلب فقدان ثقة الناخبين، وبالتالي الخروج من الحكم في الانتخابات المقبلة، ولا يوجد حزب سياسي يرغب في الخروج من السلطة، وعدم تحقيق أهدافه ومصالحه الحزبية والوطنية.
في عالمنا العربي، وكما ذكرت سابقاً وللأسف، نفتقد مثل هذا التداول السلمي للسلطة، بل حتى إننا لا نرى حياة حزبية حقيقية، فمعظم الأحزاب - إن وُجدت - يضيق عليها في الدول العربية وأفرادها تحت رقابة الأجهزة الأمنية، وكأنهم مخربون، أضف إلى ذلك ضعف الدعم المالي الذي تقدمه الدول العربية للأحزاب، هذا إن وُجد أساساً.
هناك ضرورة لتغيير هذا التوجه في دولنا العربية، ودعم العمل الحزبي وتشجيع الشباب، خصوصاً على الانخراط في الأحزاب، إضافة إلى كف الأجهزة الأمنية عن التدخل في الحياة السياسية والمدنية، بل أن يقتصر عملها على الأمن فقط، الذي هو محل تقدير كبير، ليست التجربة التركية أو حتى البريطانية في الازدهار والحداثة عصية على دولنا العربية، بل نستطيع تقليدها والتفوق عليها إن تولدت الإرادة السياسية الحقيقية والصادقة، بالانتقال من سياسة الوصاية والاستئثار بالسلطة، إلى التداول السلمي للسلطة.