عالم بلا أخلاق
في قمة العشرين التي أقيمت في الصين أخيراً قال السيد أردوغان: "مئات الآلاف من الضحايا قتلوا ولا تزال بعض الدول تدعم ذلك النظام في سوريا.. إن هذه المواقف عديمة الحياء".
هل هذه العبارة "المواقف عديمة الحياء" تساوي عبارة "عالم بلا أخلاق"؟ تلك التي كنت في قريتي الصغيرة أسمع عامة الناس من حولي يرددونها في حال غضبهم؟ العجيب أن أولئك البسطاء يجمعون عليها حتى وهم في ذروة مناسباتهم الاجتماعية ولقاءاتهم السعيدة.
وقتها كنت صغيراً أتساءل: متى سيكون هذا العالم مليئاً بالأخلاق؟ ولما صرت شاباً وقرأت تاريخ بعض المصلحين كنت أتوق لرؤية أولئك القادة الملهمين الذين يملأون الأرض رحمة وإنسانية كما ملئت ظلماً وجوراً.
في سنوات مضت استمعت للكثير من قادة الشعوب باهتمام، وتسمرت طويلاً أمام الشاشات التي يظهر فيها قادة الرأي والمفكرون والعلماء في هذا العالم، ومن يكثرون الحديث عن الإنسانية والعدالة، ويرددون مفاهيم حقوق الإنسان السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويشددون على رصد الانتهاكات ومحاسبة المجرمين وضمان مبدأ عدم الإفلات من العقاب ومبادئ العدالة الانتقالية، وبناء الدولة على أساس القانون والمواطنة المتساوية والتزام الصكوك الدولية في مجال الحقوق والحريات..
ولم تكتمل الحكاية، فهذا كله لم يحُل المشكلة الأخلاقية في هذا العالم، فالمواقف الدولية التي تمثل النظام العالمي اليوم تظهر تباعاً عديمة الحياء كما عبر أردوغان، والانتهاكات تتعاظم فوق مستوى آلات الرصد آلاف المرات، ولا يرصد منها إلا ما يراد رصده وفقاً لسياسات أصحاب النفوذ الدوليين، وقد ذكر الدكتور محمد المجذوب، في مقدمة كتابه "التنظيم الدولي" أن "العالم قد نكب منذ العام 1945، وحتى نهاية القرن المنصرم، بأكثر من مائة حرب أو نزاع مسلح، بلغ بعضها أقصى درجات العنف والضراوة، ونجم عنه كوارث مادية وبشرية يصعب وصفها، ذلك أن الحروب تنتهي دائماً بالخسائر والويلات وتدمير أروع ما أبدعه الإنسان".
وفي وقت قريب ذهبت للدراسات العليا في مجال حقوق الإنسان، وقرأت عن التنظيمات الدولية والإقليمية والوطنية في هذا المجال، وتحدثت مع أساتذتي وزملائي عن سر الفجوة الهائلة بين واقعنا الحقوقي العالمي وما تؤكده الحقائق من انتهاكات مروعة في مناطق مختلفة من العالم، وبين ما هو مسطر في كتب الحقوق، وما تحويها من الصكوك الدولية والإقليمية وقواعد الأعراف الدولية والقوانين الوطنية.. أعترف أننا لم نجد كتلاميذ إجابات شافية، إلا أننا فهمنا شيئاً واحداً يؤكد ما سمعته من عوام قومي في قريتي الصغيرة أن هذا العالم لا تحركه الأخلاق، وليست هي الأساس في علاقات الدول ببعضها ولا في علاقاتها بشعوبها وفق المناهج المعاصرة والتنظيم الدولي الجديد.
يقول المفكر الكبير/ صالح بن عبد الرحمن الحصين - رحمه الله - في كتابه "العلاقات الدولية بين منهج الإسلام ومنهج الحضارة المعاصرة": "إن هناك خصيصتين تطبعان منهج العلاقات الدولية في الحضارة المعاصرة:
1 - هشاشة الأساس الأخلاقي الذي يرتكز عليه هذا المنهج.
2 - هشاشة القوة الإلزامية للقواعد القانونية المفروض أن تحكم العلاقات الدولية.
ولذلك كان من الطبيعي أن تكون العلاقات الدولية المعاصرة مبنية في هذا المنهج على القوة والمصالح الوطنية فقط".
تلك شريعة الغاب التي كان معلمونا في المدارس ينعتون بها التاريخ القديم، ويبشروننا بعالم جديد ومتقدم يحترم الإنسان ويعلي شأن القيم.. نلتقي معهم اليوم بعد أن كبرنا لنعلن جميعاً معهم في كل جلساتنا موافقتنا لقناعات آبائنا الأولين: عالم بلا أخلاق.. وإننا لمتفائلون!