نحو بريسترويكا مصرية
عقب توليه الرئاسة بعام، تحديداً في عام 1986، أعلن ميخائيل جورباتشوف عن حركته الإصلاحية الجديدة تحت عنوان "البريسترويكا والجلاسوسنت"، وكان العنوان دالاً على مضمون الحركة، إذ إن بريسترويكا تعني إعادة البناء، وجلاسوسنت تعني المصارحة، فكان العنوان ضمنياً يقول مصارحة الشعب بالحقائق؛ لنتمكن من إعادة البناء.
وكانت البريسترويكا حركة ذات أبعاد متعددة ثقافياً واجتماعياً وصناعياً واقتصادياً، وغالب أوجه أنشطة الدولة، وكان جورباتشوف يهدف بهذه الحركة إلى إعادة تطوير الاتحاد السوفييتي بعد سنوات من الجمود والانغلاق بسبب تطبيقات غير سليمة وغير آنية لشيوعية لينين.
وبدأت حركة البريسترويكا بالفعل وجاءت بصعوبات جمة لم يكن أصعبها عمق البنيان المؤسسي السوفييتي، فرغم ما ظهر من تفكك الروابط الداخلية بين دوله الأعضاء، فإن البنيان التراكمي للدولة أظهر مقاومة لأي وكل تغيير.
وكانت الضربة القاصمة لحركة بريسترويكا هي محاولة جورباتشوف تطبيق لينينيته المطورة في إعطاء الدول أعضاء اتحاد السوفييتي بعض اللامركزية وشيئاً من الاستقلالية، وصل إلى حق الانفصال، وسرعان ما توالت الجمهوريات الآسيوية في طلب الانفصال، وتوالت الأحداث بمتوالية تتبع من الخارج، وتنعكس بالداخل، حتى أصبح الاتحاد السوفييتي ماضياً وطللاً.
واختلف الشاهدون هل كانت البريسترويكا سبب هذه النهاية أم فقط كانت إرهاصة الختام، بل ذهب البعض إلى اعتبار البريسترويكا بمثابة رصاصة الرحمة التي أطلقت على ميت يغادر الحياة.
وكانت ليد جورباتشوف أثر في نهاية البريسترويكا والاتحاد السوفييتي معاً، وذلك بما ارتكبه من أخطاء كادت تصل إلى حد الجرائم السياسية، منها أن البريسترويكا في حد ذاتها جاءت متأخرة، أيضاً عدم استيعاب الشعب وقادته المحليين لرؤية ميخائيل جورباتشوف، كما استخدم جورباتشوف في تطبيقه للبريسترويكا أدوات من داخل النظام، ورضي بحلول وسط في أمور لم يكن يجدي معها سوى حسم باتر.
ورغم أن الترجمة الدقيقة لكلمة بريسترويكا تعني إعادة هيكلة فإنني أفضل في هذه الكتابة استخدام الترجمة غير الدقيقة بمعنى إعادة بناء.
الآن لا شك نحن في أحوج ما نكون إلى بريسترويكا تجتاح الأفراد والبلاد قد لا نكون تاريخياً في أسوأ أحوالنا، ولكن نحن الآن أقل ما كنا نحمل فرصاً للنجاح، لم نكن طوال تاريخنا أبعد من فرص النجاح والتقدم مثلما نحن الآن، وأنا أرجع السبب ليس لتأخرنا بقدر ما هو تحرك العام من حولنا بسرعة فائقة، واستخدامه أدوات جديدة، بل أكاد أقول إنه تم خلق حياة جديدة كون الحديث خارج حدود أمانينا وتصورنا.
نحن بحاجة إلى بريسترويكا إعادة بناء، تبدأ أولاً بإعادة تحرير المفاهيم الراسخة في عقولنا، التي إما فهمناها خطأ أو تعسفنا في تطبيقها أو اختلفنا حولها، فذهب منا معناها الحقيقي وجوهرها النقي.
من هذه المفاهيم الديمقراطية العدالة الاجتماعية سيادة القانون، ثم ثانياً علينا إعادة تشكيل الوعي الجمعي، وذلك بالاستجابة إلى المتغيرات فيما رسخ في العقول، بمعنى إعادة توصيف مسميات كثيرة، مثل دور الدولة وشكلها، حقوق المواطن، العلاقة بين الأجهزة الحاكمة، وأيضاً شكل وتكوين الأجهزة الحاكمة.
وعلينا في كل ما سبق التخلص من كل أفكار الماضي التي كنا نظمها ثوابت ومسلمات، والتحرر من كل القيود الشكلية حتى نستطيع أن ننطلق نحو تأسيس شكل جديد لكل قواعد العمل العام، وكل هذا ليس باليسير.
فإن قمنا بكل ذلك سوف ننتقل إلى الخطوة التالية، وهي تغيير وإعادة تشكيل كل الأطر التي صنعناها مسبقاً لتحل محلها أطر جديدة.
إن أي تطوير أو محاولة إصلاح أو تعديل هي إهدار وتضييع، فالأصل يجب أن يكون شاملاً للمنظومة من أساسها، لا أوافق كثيرين في اعتبار الفساد أهم مشكلاتنا، أو في تحميل قيادات سابقة وحالية جزءاً كبيراً من مشكلاتنا، أو حتى أوعز ما نحن فيه لقلة الموارد، بل أرى أن مشكلات هذا البلد إنما تندرج تحت عنوان واحد هو الإهدار الناتج من عدم التطور مع العالم.
إن حجم الإهدار في أي قطاع خدمي أو إنتاجي أو حتى أمني ليفوق قدرة أي عقل على الاستيعاب، لا يسمح المجال لسرد أمثلة أو ذكر دلائل، ولكن قد نستطيع مناقشة فكرة ألا وهي دور الدولة في القطاعات الخدمية، للأسف ما زالت الدولة تصر على تقديم الخدمات من صحة وتعليم وأخرى بنفسها، وقد يكون هذا صحيحاً في زمن خلا، ولكن الآن ليس هذا بصحيح، بل يجب على الدولة أن تفعل ما هو ضروري حتى يستطيع المواطن شراء الخدمة والتمتع بها من مقدمها الأصلي، وينحصر دور الدولة في المراجعة والرقابة على تقديم الخدمة، وكذا في التعليم وبقية الخدمات، وقِس على هذا بقية القطاعات.
لا يعقل أن نعتبر أن ضخ الأموال أو إعادة هيكلة بمنظومة التعليم في مصر مجدية، وهي غاية ما تبغي فتح جامعات ومعاهد ومدارس جديدة في وقت يتحدث فيه العالم جدياً عن نهاية عصر التعليم الجامعي وحتى المراحل التعليمية المبكرة أصبح التعليم عن بعد بديلاً عنها.
إننا بحاجة لبريسترويكا اجتماعية تعيد تشكيل القيم لجميع فئات الشعب بحيث يكون هناك توحيد لترتيب القيم داخل المنظومة الاجتماعية.
نحن بحاجة إلى بريسترويكا ثقافية تستطيع أن تأخذ مكانها في صدارة شعب، وتخلق رؤى لقيادة واعية.
إن عملية اللحاق بالركب العالمي الجديد ليست مستحيلة، بل ممكنة، إن استطعنا التخلص من كل ما يكبلنا ويكبل عقولنا من ثوابت اقتصادية واجتماعية وثقافية لم يعد لها مكان في عصرنا الحاضر.