أزمة الإشاعات وإشاعة الأزمات
ما من شك أنه ليس أخطر من الإشاعة على النسيج الاجتماعي، فهي بمثابة الشرارة التي تتدحرج بعدها كتلة النار لتلتهم هذا النسيج.
وإنه من المعلوم أن أهم ما يلزم استقرار وتقدم أي مجتمع هو قوة ومتانة الرابط الاجتماعي، حيث تنصهر كل فئات المجتمع من رئيس ومرؤوسين، وتتواصل بسلاسة السلطات الثلاث (التشريعية والقضائية والتنفيذية) مع كل فئات وقطاعات المجتمع؛ لتصبح وقوداً حيوياً للتقدم والازدهار، وجدار صد لأي خطر يتهدد السلم الاجتماعي.
وليس أدل على ذلك من قول الله تعالى: "لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً" [الأحزاب: 60].
حيث يتضح أن الحكم الشرعي لمثيري الإشاعات والأراجيف، هو التسلط عليهم ثم الإخراج من دائرة النسيج الاجتماعي فلا سكن لهم ولا مقام في جسد الأمة المتجسد في بنيان مرصوص يشد بعضه بعضاً.
وإن أشهر تعريف للشائعة ينسب إلى عالم الاجتماع الأميركي "تي شيبوتاني"، الذي اعتبر الشائعات "أخباراً ملفقة تتولد من نقاش جماعي"، ويؤكد شيبوتاني في هذا الإطار أن مصدر الشائعة حدث مهم وملتبس، ويمكن اختصار التعريف بالمعادلة: الإشاعة = الأهمية x الالتباس.
وتقوم هذه العلاقة كما هو جلي، على تفاعل مهم بين أهمية الحادثة أو الموضوع وبين الالتباس وهي حالة عدم اليقين، فإن لم يكن الحدث مهماً أو ملتبساً على الإطلاق، فلن تنشأ الشائعة.
وإن مجتمعنا الفلسطيني الذي يعاني من الاحتلال الأسوأ على مر التاريخ، لهو بأمَسّ الحاجة لهذا التماسك، وهذا الامتزاج وهذا النسيج، إذ عمل هذا الاحتلال على استمرارية أزماتنا وتوليد الإشاعات؛ لذا فإنه لا تكاد تغادرنا أزمة إشاعة إلا وتباغتنا أزمة أخرى، وما من شك أن الاحتلال لهو المستفيد الأبرز والأكبر من تغلغل هذه الإشاعات وتفشي تلك الأزمات لما لها من أثر على وحدة واستقرار النسيج الوحدوي الفلسطيني الأمر الذي يطيل من عمر هذا الاحتلال الزائل.
وإن الناظر لواقعنا الفلسطيني لا يكاد يحصي تلك الإشاعات وما ينتج عنها من أزمات نفسية واجتماعية تضعف الثقة ما بين الجمهور وقيادته السياسية، مروراً بكل المؤسسات العامة، حتى وصلنا إلى ما نحن عليه الآن، لا همَّ لنا ولا شكوى إلا جدول قطع ووصل التيار الكهربائي، ومدى توافر وقود السيارات، وغاز الطهي، غير ملتفتين لكثير من القضايا الوطنية التي تعد محور الصراع الذي يولد تلك الأزمات.
وبهذا -للأسف- يكون الاحتلال قد نجح بأجهزة إعلامه واستخباراته وأدواته الخبيثة من النيل من وحدة النسيج الاجتماعي الفلسطيني من خلال بث الإشاعات وصناعة الأزمات والنيل من ثقة الجمهور الفلسطيني بمؤسساته وقياداته، وليس أدل على ذلك ما كشف في اعترافات بعض المتخابرين مع الاحتلال، أن بث أي إشاعة لا يستغرق منهم سوى الركوب في عدد من سيارات الأجرة وإثارة أي إشاعة؛ لتصبح حديث الرأي العام بعد سويعات، وأستحضر هنا ما أثير أثناء حرب 2008 عن تخبئه الوقود في أراضي المحررات.
وإني هنا لا ألقي باللوم على الاحتلال فقط، فهو مشهورٌ بمكائده وأساليبه الخبيثة التي استهدفت جسد الأمة العربية والإسلامية؛ لأن بقاءه قائمٌ بشكل أساسي ورئيسي على تشرذم الحالة الفلسطينية، ولكن يلام على المؤسسات ذات العلاقة بمحاربة الشائعات، والمؤسسات التعليمية والتثقيفية، بل حتى على وسائل إعلامنا التي لم تتناول الموضوع بشكل معمق.
وعليه فإن غياب برامج وطنية لفضح تلك الإشاعات ومعالجة ما ينتج عنها من أزمات قبل تفاقمها هو سبب رئيسي في أزمة التشرذم والاستقطاب في الحالة المجتمعية الوطنية التي نعيشها في كثير من جوانب الحياة بل وفي أغلبها.
وهنا أود أن أشير إلى أهمية دور الإعلام في تبني سياسة وطنية تقف بالمرصاد لفضح وتفنيد كل ما يثار من أراجيف تنال من تماسك الأمن والسلم الاجتماعي، على أن تتسلح هذه السياسة باللوائح القانونية والعقوبات اللازمة لردع مثيري الإشاعات، سواء كانوا أفراداً أو هيئات.
لذا فإني أوصي بتكليف المؤسسات الرسمية الفلسطينية بعمل مركز تحليل ومعالجة لكل ما يبث من إشاعات وما ينتج عنها من أزمات، وذلك من خلال تخصيص نشرات إخبارية توعوية عبر شاشات التلفزة المحلية والإذاعات، ومن خلال إرسال رسائل عبر الهواتف النقالة والهواتف الأرضية، وكذلك التشبيك من لجان الأحياء والقرى عبر وزارة الحكم المحلي والبلديات لعقد اجتماعات شهرية دورية مع المواطنين داخل الأحياء؛ للوصول لمجتمع أكبر تماسكاً وأكثر مناعةً على الاحتلال وإشاعاته وأزماته؛ ليكون مجتمعاً قوياً مؤهلاً للتحرير.