قبل أن يُعرَف «ساكن» .. البيت الأبيض!
اذا كان هناك مَنْ يرفض الاستنتاج او التحليلات التي تتحدث بان الولايات المتحدة الاميركية, بدأت رحلة «الهبوط» عن المكانة المنفردة والاستثنائية التي تبوّأتها منذ ربع قرن, وخصوصاً بعد انتهاء الحرب الباردة وبروزها كدولة كُليّة القدرة والامكانات والثروات وتتوفر على اقتصاد قوي وحيوي, فضلا عن قوتها العسكرية الباطشة وغير المسبوقة في التاريخ، ناهيك عن كونها المركز»الاول» في التكنولوجيا والاختراعات والقدرة على مواجهة الازمات بأقل الخسائر, وغيرها من التمجيدات والاشادات التي تُصرَفُ احيانا بلا رصيد اخلاقي, كون واشنطن العاصمة التي تصدر منها اوامر الغزو والاجتياحات وتدبير الانقلابات والبطش بمن لا يؤمن بأحاديتها ولا يدين لها.. بالولاء, ولم تكن تجربة تدمير العراق سوى الدليل الاحدث على ما دأبت واشنطن ممارسته, منذ ان «ملأت» الفراغ العسكري والاستراتيجي, الذي نشأ بفعل انهيار الامبراطوريتين الاستعماريتين القديمتين البريطانية والفرنسية، دون ان ننسى ارتكاباتها في دول اميركا اللاتينية والشرق الاوسط وجنوب شرق آسيا, وبالتأكيد اوروبا التي استتبعتها بعد الحرب العالمية الثانية ونشرت فيها القواعد البحرية والجوية والبرية تحت مظلة حلف شمال الاطلسي.
ما علينا..
ثمّة مَنْ يُحذِّر من التسليم بان مرحلة الانحدار الاميركي قد بدأت، إلاّ ان هناك «شبه» اجماع في ان «اميركا» التي «نعرفها» وعرفناها سابقا, ليست بما هي عليه في هذه الايام التي تشهد معركة انتخابية رئاسية, تكاد تكون «فريدة» في طبيعتها وخطابها ومُكوِناتها وما تتوفر عليه من احتمالات بخروج الامور على نطاق السيطرة، بعد ان دخلت عوامل كثيرة على المعركة التي يخوضها المتنافسان الجمهوري دونالد ترامب ضد الديمقراطية هيلاري كلينتون، قد دخلت (أو أُدخِلت) فيها قضايا وملفات داخلية واخرى خارجية, لم تكن ذات يوم موضع اهتمام جدي او احتلت اولوية على جدول أعمال «المتنافِسَيْن» اللذين وان كانا لم يوفِرا اي سلاح او اشاعة او خبر ملفق او تقرير ووثيقة مزيفة إلاّ استخدماها, إلاّ ان ما يحدث في هذه المعركة التي اوشكت على الانتهاء، يثير الاهتمام والريبة والتخوّف في الآن ذاته، وإلاّ – مثلاً – كيف يمكن تفسير كل هذا التمسُّك «الديمقراطي» بالاتهام الذي فبركوه عن ان روسيا اخترقت الموقع الالكتروني للحزب ولحملة كلينتون، كي تَخلِق البلبلة وتوفر الفرصة لمرشحها «المُفضّل» ترامب, الذي هو «مُساير» للديكتاتور بوتين كما تقول حملة كلينتون؟ وكيف يمكن تفسير عملية التشويه المُنظَّمة وربما يصحّ وصفها بالناجحة, التي يقوم بها الحزب الديمقراطي ضد ترامب واتهامه بالجنون والمزاجية وعدم القدرة على الصمود امام المناظرات, وبالتالي «الاستنتاج» بانه «خَطِر» على الولايات المتحدة وامنها القومي, بل وامن العالم اجمع, الى حد التركيز «غير المبرر» على احتمال رفض المرشح الجمهوري وانصاره نتيجة الانتخابات «إلاّ إذا كان هو الفائز» والاستعداد لافتعال اعمال عنف وشغب في الشوارع (وصفوها بالثورة) على نحو يُعرّض الديمقراطية الاميركية للخطر ويسيء إليها.
ليس المقصود بذلك التنويه بترامب او الإشادة به, فهذا سيُقرِّره الناخب الاميركي يوم غد الثلاثاء, الا ان دخول اوباما وزوجته على هذا النحو غير المألوف»رِئاسِيّاً» في دعم المرشحة الديمقراطية ، يشير الى مدى «الرعب» الذي حل بحملة كلينتون بعد الكشف عن بريدها الالكتروني وعلاقاتها بالقوى الرأسمالية والمصرفية النافذة وفساد مؤسسة كلينتون «للاعمال الخيرية» التي تلقت أموالاً (يصِفونها... تبرعات) من دول تتهمها كلينتون والادارة الاميركية, بانها دول مُستبِدة وفاسدة, ناهيك عن عدم «امانتها» حيث كانت تنقل رسائلها الالكترونية وغير القابلة للتداول غير الرسمي، الى ابنتها... تشيلسي.
إلى أين من هنا؟
أيّاً كانت شخصية الذي سيحلّ في البيت الابيض يوم 20 كانون الثاني المقبل ليكون/تكون الرئيس الأميركي رقم (45), فان اميركا التي نعرفها – حتى الان – لم تعد تلك التي «كانت» خلال ربع القرن الماضي, بعد ان برزت قوى دولية تُنازِعها المكانة والدور والنفوذ، وبرز الى سطح المشهد الدولي انعدام قدرة واشنطن على حل المشكلات العالمية منفردة وخِدمة لمصالحها الانانية فقط, على النحو الذي برز مثلا في حرب الخليج الاولى وفي «غزو» يوغسلافيا وقصفها وتقسيمها وفي اسقاط القذافي وقبله غزو افغانستان والعراق ومواصلة استهدافها وانتهاكها سيادة الدول بذريعة محاربة الارهاب الذي ترافق مع مذابح ومجازر استهدفت اعراسا واحياء مدينة ومدارس ومشافي وتشكيلات من الجيوش الوطنية, كما حدث في دير الزور مؤخرا وقبله في افغانستان واليمن.
ثمة ايضا الدور الروسي الاقليمي والعالمي الآخذ في التعاظم والبروز, كذلك الحال مع الصعود السلمي الصيني والمترافق مع ارادة صينية بارسال رسائل حازمة لواشنطن بان اي مسّ بأمنها ومصالحها, لن يكون بدون عقاب او ثمن, فضلا عن عملها الدؤوب (بيجين) لاستمالة أصدقاء أميركا التقليديين كما حدث مع الفلبين ورئيسها الجديد, وما يحدث الان مع ماليزيا الذي انتقد رئيس وزرائها الغرب وبدأ تقارباً لافتاً مع الصين.
في السطر الأخير، ثمّة طريق على الرئيس/ة الأميركي الجديد أن يسلكه, اذا ما اراد للعالم ان يعيش في أمن وسلام ويتجنب الحروب والدمار وهو الاقرار بان عصر القيادة الاميركية المنفردة للعالم قد ولّى وان نظاماً دولياً جديداً متعدّد الأقطاب هو الوسيلة الوحيدة لتجنّب الحروب والصراعات.وليس كذلك عسكرة العلاقات الدولية ومحاصرة روسيا واستفزاز الصين ودعم الاحتلال الاسرائيلي.
(الراي2016-11-07)