الفلسفة كضرورة للإصلاح..!
في حيثيات قرار منظمة اليونسكو اعتماد يوم الخميس الثالث من تشرين الثاني (نوفمبر) من كل عام يوماً عالمياً للفلسفة، كتبَ المجلس التنفيذي للمؤتمر العام في دورته الثالثة والثلاثين المنعقدة في باريس في العام 2005:
"إن المجلس التنفيذي.. وعياً منه بالدور البارز الذي تؤديه الفلسفة في تطور الإنسانية؛ واقتناعاً منه بأهمية الفلسفة، وحرصاً منه على ضرورة حماية الإنسانية من الخطر المزدوج الذي يتربص بها، والمتمثل في النزعة الظلامية ونزعة التطرف؛ وإذ يذكِّر بأن الفلسفة تؤدي دوراً أساسياً في تعزيز التسامح والسلام... يحث (المجلس) الدول الأعضاء على... تعزيز تعليم هذا التخصص في بلدانها وتشجيع المبادرات المتعلقة بالأنشطة الفلسفية التي يقوم بها الشركاء المعنيون بهذا التخصص... ويذكِّر بأن الفلسفة تَخصُّص يشجع الفكر النقدي والمستقل الكفيل بالإسهام في فهم العالم وتعزيز التسامح والسلام".
ليس من الصعب اكتشاف الصلة الوثيقة بين محتوى هذا المقتطف وبين مشروعنا الوطني المعلَن هنا في الأردن. فإذا كُنا بصدد محاربة التطرف والظلامية، وصناعة عقل نقدي وابتكاري ومتنور يُحسنُ فهم العالم، فإننا معنيون تماماً بمسألة تعزيز تدريس الفلسفة كضرورة وشرط مسبق لصناعة هذا العقل. ولن ينفع التهرب من أداء هذا الاستحقاق إذا ما أريدَ لمشروع تطوير المناهج المدرسية، والعقل الاجتماعي الأردني، أن يحقق النجاح.
المطلوب أولاً إعادة مقاربة الفلسفة بانتباه متعاطف، والتخلص من العداء غير المنطقي لها على أساس أنها الطريق إلى الإلحاد الحتمي أو العدمية والانحلال. ومن السهل اكتشاف أن أعداء الفلسفة الأساسيين هم "النزعة الظلامية والتطرف"، لأن الفلسفة لا تسمح بترك هذه الاتجاهات تمر بلا مساءلة وتفكيك. وعمل الفلسفة هو تحريك كل ما هو ساكن وخلخلته، لغاية ارتياد آفاق معرفية جديدة بلا انتهاء.
إذا تولدت لدى صاحب القرار قناعة أصيلة بضرورة تحريك العقل والتحرك معه إلى الأمام عن طريق تشغيله بالفلسفة، تأتي مرحلة الآليات والأدوات. وسيتطلب جعل الفلسفة مبحثاً أساسياً في التعليم وضع منهاج وإعداد معلمين مؤهلين غير حرفيين لإيصال محتواه. وسيعني ذلك في الممارسة إقرار تعليم الفلسفة في الجامعات على مستوى درجة البكالوريوس، وليس درجتي الماجستير والدكتوراة فقط، كما هو الحال الآن. ومع الوقت، لن يبقى تخصص الفلسفة في الجامعات تجميلياً وكأنه من باب لزوم ما لا يلزم، وإنما سيكون الملتحق به على إلفة بالموضوع الذي تعرّف إليه جيداً في المدرسة، وسيعرف أن له عملا ضروريا بعد أن ينال الدرجة العلمية.
أتذكر أنني وجدت ذات مرة شيئاً في أحد كتب أبنائي المدرسية عن الفلسفة، لكنَّ طريقة عرض الموضوع على طريقة "الصدمة والرعب"، كانت وكأنما تريد أن تقول للطالب أن يكره الفلسفة وينفر منها. كانت الفقرات مجتزأة من شيء ما وغير متصلة، والمفاهيم مغرقة في التجريد بحيث وجدتُ صعوبة في شرحها لابني. وكان أبعد ما يصل إليه ذلك النص الغامض هو إجبار الطالب على استظهاره دون فهمه وتحبيره على ورقة الامتحان من أجل العلامة، ثم مغادرة الفلسفة بغير رجعة أبداً. وما هكذا يجب أن يكون عرض الفلسفة ولا أي مبحث معرفي.
ليس المقصود من تدريس الفلسفة حفظ تاريخها غيباً ومعرفة أين ولد أفلاطون واستظهار مقولاته مثلاً. المقصود هو تعلُّم الآليات المنطقية التي تنتج الفكر الفلسفي، ثم استعمال هذه الآليات في الحكم على المقولات والأحداث وأي شيء يحتاج إلى إصدار حكم. وفي النهاية، سيكون العقل المتمرن بهذه الطريقة قادراً على التعامل مع أي عِلمٍ بنفس الطريقة التحليلية لغاية إنتاج معرفة جديدة وأصيلة فيه.
الأمل عند كل المؤمنين بفضل الفلسفة، هو أن لا تُقتصر علاقة الأردن المعني الآن بمحاربة التطرف والظلامية، على احتفال بروتوكولي يقام في "يوم الفلسفة العالمي" ولا يُعنى به سوى المشتغلين بالفلسفة ومحبِّيها القلائل. الأمل هو إجراء مراجعة جدية لغرض يوم الفلسفة المذكور في المقتطف أعلاه، ثم الاستفادة مما تستطيع الفلسفة أن تنجزه على مستوى الإصلاح الوطني حين تصبح جزءًا طبيعياً وحاضراً دائماً من التكوين المعرفي للأجيال –ليس كبيانات تُحفظ غيباً، وإنما كآليات صالحة لفهم العالم واتخاذ قرارات أكثر حكمة. وستتحقق الفائدة فقط بالعمل المنهجي العارف بغاياته، على جعل الفلسفة مبحثاً أساسياً لا غنى عنه في المناهج المدرسية.
(الغد 2016-11-17)