حلب في عصر ما بعد الحقيقة
في حالة حلب اليوم، بل في ما وصلت إليه الأوضاع في سورية ككل، أصبح الحياد ضربا من ضروب الخيانة للضمير والوعي. لكن إذا ما أراد العقل البارد المستقل أن ينحاز للقيم الإنسانية الكبرى، لا سيما الحق في الحياة، والحق في الكرامة الإنسانية، فإن مشهد مدينة حلب وما يدور حولها في الأخبار والحكايات في هذه الأثناء لا يوصل لشيء أكثر من التطبيق العملي للمفهوم الذي بات ينتشر مؤخرا "عصر ما بعد الحقيقة" (Post-Truth)، بكل ما يشير إليه من فوضى وعبثية وتضليل وزيف.
"عصر ما بعد الحقيقة"، هو السياق الذي تختلط فيه الأكاذيب بالحقائق، ويصبح الشحن العاطفي والمعتقدات أكثر تأثيرا وقوة في توجيه الرأي العام. وحسب قاموس أكسفورد، يدل هذا المفهوم على "الظروف التي تصبح فيها الحقائق الموضوعية أقل تأثيرا في تشكيل الرأي العام، مقابل قوة الشحن العاطفي والمعتقدات الشخصية". وهذا المفهوم هو الأحدث في قاموس العلوم السياسية والإعلام والرأي العام، وبرز بشكل واضح في تفسير الظروف والسياق السياسي والثقافي الذي جاء بالرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب إلى البيت الأبيض؛ وهو الذي يفسر النزعة الشعوبية الجديدة التي تجتاح العالم.
قاد الحسم العسكري الذي مارسه الجيش السوري والقوى المتحالفة معه إلى حالة من الهستيريا العاطفية على مواقع التواصل الاجتماعي، وكأن سورية لم تكن تذبح كل يوم منذ العام 2011 إلى هذه اللحظات، وكأن كل الأطراف المتصارعة في ساحات القتال أو بالسياسة العدمية أو بدفع الأموال السوداء، لم تكن متورطة في الدم السوري؛ بدءا من النظام السوري وكل حلفائه في بيروت وطهران، وصولا إلى موسكو. فالجميع يفتكون بالشعب السوري ويكذبون. والقتل والكذب تمارسهما التنظيمات التي باعت قضيتها مرات ومرات من أقصى الأصولية الداعشية إلى التنظيمات التي تعيش على رائحة الغاز، إلى القوى الليبرالية. والنظام التركي متورط بالدم السوري من رأسه إلى أصابع قدميه؛ والقوة العظمى الأميركية متورطة بالدم السوري. ونظم عربية عديدة تورطت بالدم السوري بالأموال والعتاد والسلاح وإطالة عمر المأساة. والشعوب العربية منقسمة بين ما يوصف بالمخطط الصفوي الإيراني الطائفي الذي وجد مصالحه مع الروس، وما يوصف بالمخطط الغربي التركي للسيطرة على المنطقة بإحياء نسخة مقيّفة من الإسلام السياسي المدعوم بأموال وعواطف عربية.
وسط كل هذه الفوضى تضيع الحقيقة في حلب، وتضيع الحقيقة في كل المشهد السوري. ليس صحيحا أن الحقيقة هي أولى الضحايا في كل الحروب؛ فهناك حروب تبدو فيها الحقيقة واضحة لأنها حروب عادلة. لكن في هذه الأيام، لا يتوقف ذبح الحقيقة في حلب والموصل وغيرهما، بل يمتد مشهد ضياع الحقيقة إلى عصر ترامب وافيون وبوتين وأردوغان والأسد؛ لا فرق بينهم. والمفارقة أن الحقيقة تذبح بهذه البشاعة بعدما انتقل العالم من عصر ندرة المعلومات إلى عصر وفرة المعلومات! لعلها التخمة بالأخبار والتحليلات، وما قاده التدفق الهائل من معلومات وأكاذيب على صفحات شبكات الإعلام الاجتماعي، وباتت تشكل هذا الوعي الزائف لدى الناس.
حالة استقطاب تقود إلى الفجيعة على شبكات التواصل الاجتماعي العربية؛ وحالة أخرى من الانقسام بأقلام الكتاب، يندر فيها وجود أصوات مستقلة؛ وثالثة على شاشات برامج الـ"توك شو"، لا تتوقف في كل ذلك الاتهامات ولا يتوقف الحديث عن المؤامرة والمخططات، ولا يتوقف التنابز بأقبح الأوصاف والاتهام بالرشى السياسية وبالأقلام والأفواه المأجورة. الفاجعة الكبرى إذا ما كشف بعد حين أن كل هذه السوءات هي الحقيقة.
(الغد2016-12-17)