حقيقة موسكو
بحسب مجلة "فوربس" المرموقة المتخصصة بالثروات والمال والنفوذ، فإن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هو، وللسنة الرابعة على التوالي، الشخص الأكثر نفوذا في العالم. لكن في الواقع، ورغم أنه يشترط أن يكون تقييم "المجلة" دقيقاً، فالأكيد أن الحديث هو عن بوتين كشخص، وليس روسيا كدولة، وأنّ الحديث عن ظاهرة قد تنتهي سريعاً.
على المستوى الداخلي، يعزز بوتين قبضته؛ فقد فاز هذا العام حزبه (روسيا المتحدة) بأغلبية ساحقة في انتخابات بلاده. وخارجيا، فاز من قد يبدو حليفه؛ دونالد ترامب، بالانتخابات الأميركية. وهو يحقق تقدما كبيرا عسكرياً في سورية. والآن تركيا التي اعتذرت له الصيف الماضي عن إسقاطها طائرة له كانت تقاتل في سورية العام الماضي، وافقت أن تدخل معه ومع إيران ونظام بشار الأسد في مفاوضات بالأستانة، عاصمة كازاخستان، حول الوضع السوري.
السؤال الفعلي: ما هو وضع روسيا الحقيقي في موازين القوى؟
يمكن النظر بداية للاقتصاد. ومن حيث الدخل القومي، فإنّ روسيا في المركز الثاني عشر عالميا، وتتقدم عليها حتى دول مثل كوريا الجنوبية، والبرازيل، وإيطاليا، وفرنسا. ولا يزيد الدخل القومي الروسي على 7.3 % من الدخل القومي الأميركي؛ أي أن دخل الولايات المتحدة السنوي هو ثلاثة عشر ضعف الدخل الروسي.
ومطلع هذا العام، نشرت "فوربس" ذاتها التي تقول إن بوتين هو "الأقوى"، تقريرا بعنوان "طريق روسيا إلى الدمار الاقتصادي"، قالت فيه إن المؤشرات الاقتصادية لروسيا تختلف تماماً عن تحركاتها الدولية، وإنّ احتياطاتها انخفضت بمقدار الثلثين منذ أزمة جزيرة القرم؛ من نحو 88 مليار دولار إلى نحو 30 مليارا. و"فوربس" ذاتها أيضا، نشرت هذا الأسبوع أنّ الاقتصاد الروسي سجل انكماشا بمقدار 3 % في العامين الماضيين، وإن ذكرت أنّ وزير المالية الروسي يقول إنّ مفاجأة قد تتحقق، ويحدث نمو في العام المقبل بمقدار %1.5 ، مع أنه من الناحية الفعلية انخفض الدخل القومي الروسي هذا العام 2016، حتى الشهر الماضي بنسبة 0.6 %. وهذه الأرقام السالبة يمكن مقارنتها بنسبة نمو بنحو 6.5 % للصين، ونسبة نمو عالمية وأميركية تفوق 3 %.
وقبل أيام، أعلنت صفقة مثيرة للاهتمام. فإذا كانت قطر هي خصم لموسكو في سورية، فإنّ صندوق قطر السيادي (الحكومي) اشترى هذا الأسبوع، بالتشارك مع شركة "غلنكور" السويسرية الانجليزية، حصة تعادل 19.5 % من شركة "روزنفت"؛ الشركة الحكومية الروسية النفطية. علما أن "بريتيش بتروليوم" البريطانية، تمتلك 19.75 % من الشركة. وتهدف هذه الصفقة لمعالجة العجز المالي الروسي، لكنها تعني تراجع سيطرة موسكو على بترولها.
من الناحية العسكرية، فإنّ الولايات المتحدة تنفق 12.4 ضعف روسيا على السلاح، وعدد القوات الأميركية (الجنود) هو ضعف الروسية تقريبا (1.4 مليون مقابل نحو 760 ألف روسي). ولدى الولايات المتحدة 4 أضعاف عدد الطائرات العسكرية التي لدى الروس. لكن هذا لا يُلغي أن روسيا هي الثانية عالمياً من حيث القدرات العسكرية المادية، وأنها تتفوق على الولايات المتحدة في بعض المجالات. فبحسب موقع "Global Firepower" العسكري المتخصص، فإنّ روسيا لديها دبابات ضعف عددها في الولايات المتحدة (15400 دبابة تقريبا، مقابل 8800 أميركيا). وعلى صعيد منصات إطلاق الصواريخ المتعددة، فإن لدى الولايات المتحدة 1331 منصة، مقابل 3793 منصة روسية.
لقد قامت الولايات المتحدة الأميركية، في الثمانينيات، بالدخول في سباق تسلح مع السوفيات، لم يكن هدفه تحقيق التفوق عسكرياً بقدر ما كان المتوقع إنهاك موسكو اقتصاديا بتكاليف التسلح، وقد كان ذلك الإنهاك سببا في انهيار الاتحاد السوفياتي.
بقدر ما تحقق روسيا حضورا وتفوقاً في بعض الملفات، فإن هناك ثلاث نقاط رئيسة يجدر ملاحظتها: أولاها، أنّه لا توجد تحالفات واضحة لموسكو؛ فهي تتعامل مع الكل، بدءا من واشنطن إلى أنقرة والدوحة والنظام السوري وطهران والإسرائيليين، وبالتالي لا توجد حالة استقطاب عالمية. وثانيتها، أنّ قدرة الروس على الاستمرار في حروبهم وتسلحهم مشكوك بها من حيث القدرة الاقتصادية. والثالثة، أنّ هذا التناقض بين القدرات والتحركات الدولية، ربما يعطي مؤشرا لدول مثل تركيا والولايات المتحدة أنه يمكن استنزاف موسكو والاستفادة منها في بعض المناطق، من دون أن تشكل خطرا على الصعيد الاستراتيجي.
الغد 2016-12-29