ثورات أم حروب أهلية جديدة
في مثل هذه الأيام قبل ست سنوات انطلقت أولى شرارات الثورات العربية من تونس التي أطلق عليها اسم "الربيع العربي" والتي امتدت إلى مصر وليبيا واليمن وسورية وأشعلت حراكات شعبية وسياسية طالبت بالإصلاح في عدد آخر من البلدان العربية، وانتهت هذه الثورات إلى إسقاط أربعة نظم عربية في تونس ومصر وليبيا واليمن وخلفت ثلاث حروب أهلية ما تزال مستعرة في سورية واليمن وليبيا ونحو نصف مليون قتيل وأكبر موجة لجوء في تاريخ العرب الحديث والمعاصر، وأكبر موجة كراهية وانقسام طائفي وثقافي، فيما تعمقت الأزمة التنموية وانكشف حجم فشل التنمية في العالم العربي في سلسلة من الانكشافات الكارثية متمثلة في فشل الدولة الوطنية وانكشافها في فشل نظم التعليم ونظم الرعاية الصحية وهشاشة البنى الاقتصادية مع وجود نحو 100 مليون شاب عربي في مهب الريح بدون عمل ولا مستقبل ولا بريق أمل يلوح في الأفق.
هذه النتيجة الكارثية للتحولات العربية التي لم تأتِ بأي خبرة ديمقراطية يعتد بها سوى التجربة التونسية الهشة، لا تعني مصادرة فكرة الثورات وقدرتها على التغيير، ولا تعني أن الثورات العربية لم تأتِ في وقتها ولا في مكانها، بل أحد أهم الدروس التي تعلمها الناس في هذا الجزء من العالم بأنهم تأخروا طويلا في قول كلمتهم في وجه الفساد والاستبداد.
الأمور تذهب نحو الأسوأ، فيما تبرز بقوة توقعات تتبنى سيناريوهات بأن المنطقة العربية مقبلة على موجة جديدة من الثورات، وتذهب بعضها إلى نشر جرعة من التفاؤل بأن الموجة الجديدة من الثورات هي التي ستخلق "الربيع العربي" الموعود الذي سوف يأتي بالديمقراطية واجتثاث الفساد ويبني الاقتصاد الجديد. في الجهة الأخرى تروج توقعات وسيناريوهات أخرى ربما تكون أكثر واقعية تقول إن نتائج الثورات العربية خلقت مناعة سلبية في عمق المجتمعات العربية ضد الثورات ومطالب التغيير كما يعرفها التاريخ، بل تذهب هذه السيناريوهات إلى أن المنطقة العربية مقبلة على جيل ثان من الحروب الأهلية وليست الثورات نتيجة لما يشهده من فوات وانهيار اقتصادي واجتماعي حيث تقدر تقارير علمية أن 45 % من العنف الموجود في العالم مصدره المنطقة العربية.
لا أحد يدري إلى هذا الوقت حجم الخسائر والخراب والتضحيات التي دفعها وسوف يدفعها هذا الجيل أو الأجيال القادمة، على الأقل لا يوجد لدينا توثيق دقيق لضحايا هذه السنوات من قتلى وجرحى ومشوهين ومشردين ولاجئين من رجال ونساء وأطفال، ولا يوجد توثيق دقيق لحجم الفاجعة التاريخية في الخراب النفسي الذي لحق بهذا الجيل من صور الفجيعة واليأس والتطبيع مع القتل اليومي ومشاهد الجثث والمقابر الجماعية، ولا معرفة لحجم الانهيار الفكري وحجم الردة الاجتماعية وتحلل المجتمعات العربية إلى مجاميع بشرية متناحرة على القبيلة والغنيمة والتدين الوظيفي. لا يوجد توثيق لحجم الخسائر الاقتصادية التي لحقت في البنى الاقتصادية الهشة والمتواضعة في الأصل، حجم ما لحق من خراب ودمار في البنى التحتية التي شيدت على اكتاف أجيال، ولا حجم جائحة الفقر والعوز وملايين الشباب الذين تعج بهم الشوارع بدون عمل أو أفق أو مستقبل.
بريق الثورات بمفهومها التاريخي يتراجع ، فيما ينحدر الصراع بقوة نحو القواعد الاجتماعية، وهذا ما يعد ظاهرة تاريخية لم تألفها المنطقة منذ قرون طويلة حينما انشغلت دوما بصراعات النخب ومؤامراتها، الصراعات الجديدة في معظمها تدور حول القيم والهوية والثقافة وهي صراعات لا بد منها لحسم المسائل الكبرى، وسيبقى الحظ العاثر لهذا الجيل والجيل القادم أن يدفعا الثمن.
الغد 2017-01-08