موت حصان خاسر
![موت حصان خاسر موت حصان خاسر](https://s3-eu-west-1.amazonaws.com/static.jbcgroup.com/amd/pictures/53e0f43136c5dfd6aeb85414fed850ee.jpg)
لعل الحصان هو الحيوان المستأنس الوحيد الذي لا يعتل ويموت فجأة. ولا يوافيه الأجل المحتوم إلا عندما يهرم ويدب في أوصاله الهزال، إذ يتم إخراجه من الخدمة، فيُعلف ويُترك جانباً، إلى أن يبرك في حظيرة جانبية خائر القوى، ثم يدخل رمز القوة والعنفوان في النزع الأخير لعدة أيام، ويصل احتضاره أحياناً زمناً طويلاً، إلى أن يعالجه صاحبه، مكرهاً وآسفاً، بما يعرف بـ"رصاصة الرحمة".
غير أن بعض من يتعلق بحب الخيل، ولديه رفقة مديدة مع حصانه الأثير، يعز عليه التخلي عن أحد عناوين فخره، وربما مصدر رزقه، فيواصل التمسك باستثماره هذا حتى الرمق الأخير، فتراه يعقد الرهان تلو الرهان على ما في نواصيها الخير؛ يداري على ضعفها، ويجلب البيطريين لها، ويعلل نفسه بشفائها ذات يوم.
وأحسب إن الاشكالية التي تواجه مربي الأصائل، سواء كان ذلك لغرض التملك والتجارة، أو للاستعراضات والسباقات، تكمن في عقدة الرهان على حصان مكتمل القوام، إلا أنه كثيراً ما يخذل صاحبه في المضمار، ويسوّد وجه فارسه أمام المنافسين والأصدقاء.
لم تعد الغاية من وراء تربية الخيل، في زماننا هذا، خوض معارك الكر والفر، وإعداد المغيرات صبحاً للطعن والنزال، منذ اكتشاف قوة البخار واختراع المركبات المدرعة؛ إذ باتت مهمة العاديات ضبحا لا تتعدى الجري وقفز الحواجز والعدو في السباقات الطويلة والاستعراضات، واختبارات قوة التحمل، وغير ذلك من تقاليد عوالم أجمل الدواب.
والحق أن فكرة موت الحصان الخاسر قد ألحت عليّ منذ عدة أسابيع، وأرجأتها مراراً، وتحينت الخوض في غمارها إلى هذا اليوم المصادف موعد مغادرة الرئيس الأميركي باراك أوباما مكتبه في البيت الأبيض، في ختام ثماني سنوات حافلات بخيبات الأمل، أمضاها هذا الحصان الأسود بالكلام الجميل من دون أفعال، مع أن الخيول السوداء هي المفضلة دائماً لدى الراغبين في عقد المراهنات.
فقد بدا الرئيس أوباما للكثيرين في هذا العالم حصاناً أسود ينعقد عليه الرهان، ولا سيما في العالمين العربي والإسلامي، عندما ألقى خطابه التصالحي في القاهرة، وأظهر حُسن النية، وفوقها إرادة طيبة في تغيير دفة الاتجاه الاميركي المعهود نحو شعوب هذه المنطقة. إلا أنه انكفأ على نفسه، وتراجع عما بشّر به، بل وتسبب بسياساته المترددة، بكل هذه الانهيارات المدوية.
ولعل الإرث السياسي الذي يتركه وراءه اليوم، هذا الحائز على جائزة نوبل للسلام، أبلغ من كل قول يقال عن الرئيس ذي الأصول الأفريقية، الذي تربع -في سابقة غير مسبوقة- على سدة قيادة الدولة العظمى الوحيدة، أو قل على مركز زعامة العالم، من دون أن ينهض بما عليه من التزامات قيادية، تمليها بالضرورة الموضوعية مسؤوليات الدولة صاحبة القوة التي لا تجارى. الأمر الذي أسفر عن معظم ما تعاني منه شعوب هذه المنطقة من ويلات تجل عن الوصف.
لقد كان أوباما هو الحصان الأسود بعينه عندما كنت، كغيري من الناس في هذه البلاد الواسعة، من المراهنين على خطاب يساري (بالمعايير الأميركية) يلهج به القادم من مجتمع مهمش، وفيه ما يشي بحس مثقف مرهف إزاء القضايا الإنسانية المحقة. وهو الأمر الذي ورطني –مثل كثيرين- في الإشادة بالمفوّه الساكن في البيت الأبيض، وفي التعويل عليه في تصحيح الاتجاه. فقد كنت من بين الذين عقدوا رهانهم على حصان كان يخسر في السباقات السياسية مرة إثر مرة، غير أنني بقيت متعلقاً بقدرته على معاودة الجري في المضمار، وكسب الشوط في نهاية المطاف، فيما كانت الخيبات تتراكم نقطة فوق نقطة في الكأس الطافح بالمرارات.
لم تبارح خيالي في الآونة الاخيرة صورة تكاد تكون طبق الأصل، بين باراك أوباما وبين حصان أدمن على خسارة السباق. وهو ما يجعلني غير آسف على موت أوباما السياسي، المشابه لموت بيولوجي لحصان أدمن الخسارات. ولولا أن القادم إلى البيت الأبيض حصان جامح وغير مطهّم، إن لم نقل إنه ليس محل رهان، لكان علينا الاحتفال بانصراف أوباما خاوي الوفاض، وربما كسر جرة فخار كبيرة خلف من ملأ بسياساته التراجعية هذه المنطقة بالدماء والإرهاب والدمار.
الغد 2017-01-20